«إيلاف» من الرباط: قليلون هم الصحافيون المغاربة الذين سجلوا مذكراتهم عن رحلتهم مع متاعب المهنة، وما واجهوه من تحديات خلال ممارستهم لها، أثناء انخراطهم في تغطية الأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
المفارقة أن هناك صحافيين عرفوا بغزارة إنتاجاتهم وكتاباتهم في مختلف فنون التعبير، شعرا ونثرا، واعتلوا مناصب قيادية في عدد من المؤسسات الإعلامية، ومع ذلك لم يتركوا وراءهم، بعد رحيلهم إلى العالم الآخر، أي شيء مطبوع للأجيال الجديدة.
ولعل أقرب مثال على ذلك هو الراحل محمد الطنجاوي، مدير ورئيس تحرير يومية "الأنباء" سابقا، الإعلامي الذي عايش أحداثا سياسية خطيرة، مثل انقلاب الصخيرات وغيره، والشاعر الذي تغنى بقصائده أغلب مشاهير المطربين المغاربة والعرب، من بينهم الموسيقار محمد عبد الوهاب، الذي غنى له أنشودة "الله أكبر"،إضافة إلى عبد الوهاب الدكالي الذي أسند إليه تلحين "هذي يدي" و"مولد القمر"، وغيرهما من الروائع الغنائية، ومع ذلك لم يخلف وراءه أي كتاب عن حياته الصحافية والشعرية .
محمد الأمين أزروال، انضم أخيرا إلى لائحة حملة الأقلام الذين عادوا إلى الذاكرة لاستعادة صفحات الأمس البعيد، مثل عبد الكريم غلاب، وخالد مشبال، ومصطفى العلوي، ومحمد أديب السلاوي، ومحمد الصديق معنينو، وغيرهم من أصحاب الأسماء اللامعة في بلاط صاحبة الجلالة..الصحافة.
نصف قرن
في كتابه المعنون بـ"سنوات التحرير"، الصادر حديثا، يستعرض أزروال ملامح ووقائع من تجربته التي دامت نصف قرن، انطلاقا من ميلاده في إحدى القرى المنسية في المغرب العميق، ومرورا بالتحاقه بجامعة القرويين بمدينة فاس، قبل الانتقال إلى تونس لدراسة الإعلام، ووصولا إلى الرباط للاندماج في شؤون المهنة وشجونها.
عن ممارسته للصحافة، كتب يقول إنه ظل تائهاً في دروبها، متنقلا بين منابرها، مستكنها منعرجاتها، منغمسا في سبر أغوار شعابها، "ففي أحضانها امتزجت لدي المتاعب بالمتع، والمرارة بالحلاوة".
في "توطئة" الكتاب، يكتب الحسن اربعي، مدير أسبوعية " أصداء" و"المجلة المغربية" الشهرية عن علاقته بأزروال، الذي ارتبط بمسيرته المهنية قرابة ثلاثة عقود، وهي الصداقة التي لم تنقطع أواصرها رغم الظروف القاسية التي مرت منها إصدارات مؤسسته "التحدي"، بسبب التوقيفات والمحاكمات والاعتقالات، من دون أن تسجل عليه محاولة التملص من هذه الصداقة،" علما أن العلاقات في الوسط الصحافي مع الأسف، تحكمها في أغلب الأحيان المصالح والمكتسبات".
حماية الذاكرة
أما الصديق معنينو، الكاتب العام السابق بوزارة الاتصال ( وكيل الوزارة )، فعبر في تقديمه للكتاب عن ارتياحه لكون أحد الصحافيين المغاربة قرر المشاركة في حماية الذاكرة الإعلامية الجماعية، مؤكدا أنه سيكون أكثر سعادة لو قام قدامى رجال الصحافة والاتصال، واستغلوا جزءًا من وقتهم، وعكفوا على تدوين ما احتفظت به ذاكرتهم من نشاط إعلامي جعلهم يواجهون الأحداث والوقائع والرجال.
ومن المقرر أن يساهم معنينو في تأطير حفل توقيع كتاب "سنوات التحرير" الذي ستنظمه المديرية الجهوية لوزارة الثقافة والاتصال بجهة طنجة-تطوان- الحسيمة، في اول فبراير المقبل بمدينة طنجة.
وسوف يلمس القرّاء أن أزروال لا يكتفي بالحديث عن مذكراته فقط، بل أنه يفرد فصلا خاصا يتحدث فيه عن عدد من السياسيين الذين كانت له معهم العديد من الذكريات، وضمنهم الياس العماري، السياسي المثير للجدل، ومحمد اليازغي، الامين العام الأسبق لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ، والحاج أحمد معنينو،أحد رجالات حزب الشورى والاستقلال، والمحجوبي أحرضان، زعيم حزب الحركة الشعبية، والدكتور عبد الكريم الخطيب، أول رئيس للبرلمان المغربي سنة 1963، ومحمد زيان، مؤسس الحزب الليبرالي المغربي.
إعدام جريدة
تنقل ازروال عبر العديد من المنابر الصحافية، محررا أو متعاونا، أو مسؤولا عن التحرير، إلا أن جريدة " الأنباء" التابعة للدولة، تعتبر محطة رئيسية في مساره المهني.
ومما أثار غضبه أن هذه الصحيفة تعرضت لما وصفه بـ"الإعدام"، وهي عملية يقول إن الفقيد محمد العربي المساري، وزير الاتصال في عهد حكومة التناوب، هو أول من بدأها، لأسباب حزبية ومالية، قبل أن يعمد خلفه الوزير محمد الأشعري إلى إسكات صوتها إلى الأبد.
وبالإضافة إلى ذلك، يحفل كتاب "سنوات التحرير" الذي وضع غلافه الفنان العربي الصبان، بالكثير من المواقف الطريفة، ومنها أن أزروال كان ضمن وفد صحافي لتغطية زيارة الملك الراحل الحسن الثاني إلى بريطانيا، فارتدى الجلباب المغربي التقليدي، مع الطربوش الأحمر، مما لفت انتباه الانجليز الذين كانوا يطلبون منه أخذ صور تذكارية معه، حيث كان زملاؤه الصحافيون يقدمونه لهم بصفته أميرًا من باب الفكاهة والبسط.
إنهاء الخدمة
في الختام، وبنوع من المرارة، يحكي المؤلف، أنه بعد قضاء أربعة عقود كاملة في العمل ما بين مصالح وزارة الاتصال وجريدة" الأنباء"، حان موعد نهاية الخدمة، وكانت المكافأة على كل هذه السنوات، وفي حفل أقيم بالمناسبة، هي خرقة من الثوب من النوع الذي يستعمل لجلابة مغربية.
وبدل أن يرتاح من متاعب "سنوات التحرير" الصحافي، وجد نفسه مكرهًا على مواصلة العمل في "المجلة المغربية" لمواجهة متطلبات الحياة اليومية والأسرية، ليسقط طريح الفراش بعد إصابته بمرض القلب والشرايين، ما كلفه مبالغ مالية كبيرة، في إجراء عمليتين جراحيتين في عام واحد، ولم تقم الوزارة التي أفنى شبابه في خدمتها بأية مبادرة نحوه، ليواجه مصيره وحده، معتمدًا على دعم أفراد أسرته وبعض الأصدقاء.