إيلاف من لندن: داخل أروقة السياسة الأميركية، وبين مراكز الأبحاث التي تصوغ رؤى للمستقبل، خرجت فكرة صادمة، غير مسبوقة في طرحها، تذهب إلى أبعد مما يمكن للعقل السياسي التقليدي أن يتخيله. الفكرة تقوم على أن غزة، كما نعرفها، قد انتهت، وأنه لا يمكن إصلاحها، وأن الحل الوحيد هو إفراغها بالكامل، تدميرها، ثم إعادة بنائها وفق نموذج اقتصادي جديد منفصل تماماً عن ماضيها.
المهندس الفكري لهذا الطرح الجذري هو جوزيف بيلزمان، أستاذ الاقتصاد في جامعة جورج واشنطن، الذي أعد دراسة مفصلة وقدمها إلى فريق الرئيس الأميركي دونالد ترامب في تموز (يوليو) 2024. كان يرى أن غزة أصبحت عبئًا غير قابل للإصلاح، وأن السبيل الوحيد لإنقاذها – على حد وصفه – هو محوها وإعادة تشغيلها من نقطة الصفر.
عندما كشف ترامب عن خطته المثيرة للجدل بشأن نقل سكان غزة وإعادة إعمار القطاع خلال لقائه مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو في البيت الأبيض، كانت الصدمة عالمية. رفضت الفكرة الدول العربية والمجتمع الدولي بأسره، فيما وصفها نتانياهو بأنها "أول فكرة أصيلة تُطرح منذ سنوات، وقد تغيّر التاريخ". لكن بالنسبة لرجل واحد في واشنطن لم تكن هذه الخطة مفاجئة، بل كانت مشروعه الخاص الذي صاغه بنفسه.
الخطة الصادمة
تم الكشف عن تفاصيل هذه الخطة لأول مرة من قبل المؤرخ الإسرائيلي كوبي باردا في بودكاست بعنوان "أمريكا، حبيبي!" في آب (أغسطس) 2024، حيث أجرى مقابلة مع بيلزمان ناقشا خلالها تصوره لما بعد الحرب في غزة. لم يكن الأمر مجرد خطة لإعادة الإعمار، بل كان مشروعًا استراتيجياً شاملاً يتطلب إزالة غزة كما هي تمامًا، من سكانها ومن بنيتها التحتية ومن كل ما يمثل هويتها القائمة.
في ورقته البحثية، التي حملت عنوان "خطة اقتصادية لإعادة إعمار غزة: نهج البناء والتشغيل والنقل"، والتي نشرت لاحقًا في مجلة العالم العالمية في تشرين الأول (أكتوبر) 2024، استعرض بيلزمان حججه التي استند إليها في اقتراحه، معتبرًا أن اقتصاد غزة قد وصل إلى نقطة الانهيار المطلق، مستشهدًا ببيانات البنك الدولي التي توضح أن متوسط النمو في الناتج المحلي الإجمالي بين عامي 2007 و2022 كان 0.4 بالمئة فقط، فيما انخفض نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي 2.5 بالمئة سنويًا بسبب النمو السكاني المتسارع.
"دمرها بالكامل"
مع اندلاع الحرب بعد هجوم حماس على إسرائيل في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، تفاقمت الأزمة إلى مستويات غير مسبوقة، حيث تعرض القطاع لتدمير واسع النطاق جعله – وفقًا لبيلزمان – غير صالح للحياة نهائيًا. يقول بيلزمان في مقابلته مع باردا:
"لا يمكن إعادة بناء غزة بهذه الطريقة، لا أحد سيستثمر في هذا المكان، عليك أن تدمره بالكامل، ثم تبدأ من جديد".
ويضيف أن غزة لن تكون جذابة لأي استثمارات مستقبلية، حتى من قبل المؤسسات الدولية الكبرى، طالما لم يتم تفكيكها تمامًا وإعادة برمجتها اقتصادياً واجتماعياً. يرى أن أكثر من 62 بالمئة من المباني القائمة غير صالحة للسكن، وأن 90 بالمئة من الطرق الرئيسية مدمرة بالكامل، فيما أصبح 1.2 مليون شخص بلا مأوى وفق تقديرات البنك الدولي في آذار (مارس) 2024.
ما يطرحه بيلزمان لا يقتصر فقط على إعادة البناء، بل يتطلب إخلاء غزة بالكامل وإعادة تدوير الأنقاض لاستخدامها في البناء الجديد. يقترح أن يتم تنفيذ الخطة وفق نموذج البناء والتشغيل ونقل الملكية (BOT)، وهو نظام شائع في الدول النامية، حيث تتولى شركات خاصة تنفيذ المشاريع الكبرى وتشغيلها لعقود تصل إلى 50 أو 100 عام قبل نقلها إلى الدولة.
وفقًا لهذا النموذج، ستتحول غزة إلى منطقة اقتصادية جديدة بالكامل، تعتمد على ثلاثة قطاعات رئيسية:
١- السياحة الفاخرة على الساحل الغربي، حيث سيتم بناء فنادق ومنتجعات بمواصفات عالمية
٢- مجمعات سكنية ضخمة شرقي القطاع، يتم بناؤها على الطراز الصيني بارتفاع ٣٠ طابقًا
٣- مناطق زراعية واسعة في الوسط، تعتمد على الزراعة الحديثة والصوبات الزراعية
لكن المفاجأة الكبرى أن الخطة تقضي بأن تكون غزة مستقلة تمامًا عن إسرائيل من حيث احتياجاتها الطاقوية، حيث سيتم تشغيلها بالكامل عبر محطات طاقة شمسية، كما سيتم بناء شبكة سكك حديدية خفيفة لربط المناطق المختلفة داخل القطاع، إضافة إلى مطار وميناء جديدين لجعل غزة نقطة محورية في التجارة الإقليمية.
نظام مالي تحت السيطرة
وفق رؤية بيلزمان، لن يتم استخدام النقود الورقية أو حتى بطاقات الائتمان في غزة الجديدة، بل سيتم إنشاء نظام تبادل مالي رقمي بالكامل يخضع لإدارة جهات أجنبية، مما يعني أن جميع التدفقات النقدية ستكون تحت رقابة خارجية مباشرة.
كما يرى بيلزمان أن القطاع بحاجة إلى إصلاح تعليمي جذري، ويقترح أن يتم استيراد مناهج تعليمية حديثة من الإمارات والسعودية، يتم الإشراف عليها دولياً لضمان إعادة تأهيل السكان بما يتناسب مع بيئة اقتصادية جديدة تمامًا.
ماذا عن الأمن؟
الخطة تقضي بأن يكون الأمن في غزة الجديدة بيد أطراف دولية مهتمة بمنع حماس أو أي فصيل متحالف معها من استعادة أي دور، وأن يتم نزع سلاح القطاع بالكامل بشكل دائم.
يستند بيلزمان في هذا الطرح إلى قراءته لاتفاقيات أوسلو لعام 1993، والتي يزعم أنها لم تمنح حماس أي حقوق ملكية في غزة، مما يعني – وفق رؤيته – أن أي إعادة إعمار يجب أن تتم دون أي دور للحركة.
إعمار أم هيمنة؟
ما يطرحه بيلزمان ليس مجرد رؤية اقتصادية، بل مشروع متكامل لإعادة تشكيل قطاع غزة بالكامل، بما في ذلك إعادة توزيع سكانه، وإعادة برمجة اقتصاده، ووضعه تحت إدارة شركات خاصة لعدة عقود. لكن الأسئلة التي تثيرها هذه الخطة أكبر من مجرد تفاصيلها التنفيذية.
- هل يمكن تنفيذ خطة كهذه دون تهجير جماعي قسري لسكان غزة؟
- ما مصير مليوني فلسطيني في ظل اقتراح إفراغ القطاع بالكامل؟
- هل يمكن اعتبار هذا المشروع إعادة إعمار، أم أنه إعادة احتلال مقنع بغطاء اقتصادي؟
- هل هناك جهات دولية ستدعم تنفيذ هذا المخطط، وما هو موقف الدول العربية والمجتمع الدولي؟
هذه ليست مجرد أفكار نظرية، بل خطة تم تقديمها إلى البيت الأبيض، وأصبحت الآن جزءًا من الجدل السياسي القائم حول مستقبل غزة.
* أعدت إيلاف التقرير عن "تايمز أوف إسرائيل": المصدر