عبدالرحمن الحبيب
«هذه قصة محيطنا، وعلينا أن نكتب فصلها التالي معًا، لأنه إذا أنقذنا البحر، أنقذنا عالمنا»، «المحيط اسمٌ أنسب بكثير لعالمنا من الأرض»، «لا يعيش البشر في الماء، لكن سلامة الحياة على اليابسة تعتمد على المحيطات، وعلى البشرية حمايتها»، تلك مقتطفات من كتاب «المحيط: آخر براري الأرض» الذي أصدره مؤلفان، الأول عالم الطبيعة المعروف وأشهر مذيع وكاتب أفلام وثائقية عن الطبيعة ديفيد أتينبورو الذي قضى عقوداً من الزمن يوثق ويدرس ويصور تقريباً كل بيئة بحرية على كوكب الأرض، بالتعاون مع زميله المخضرم المنتج والناشط البيئي كولين بوتفيلد، لتقديم نظرة علمية دقيقة ومصورة بمشاهد مذهلة تبدو وكأنها من وحي الخيال، حول كيفية تأثر الحياة في البحار بتغير المناخ.
الكتاب صدر تزامنًا مع اليوم العالمي للمحيطات في الثامن من يونيو الماضي بالولايات المتحدة وهو الكتاب الثلاثين لأتينبورو، مصاحباً مع عرض أحدث أفلام أتينبورو «المحيط» على منصتي ديزني+ وهولو، وكان أتينبورو قد احتفل بعيد ميلاده التاسع والتسعين في السادس من مايو لهذا العام، حيث تم خلال الحفل عرض الفيلم في قاعة المهرجانات الملكية بلندن.
كتاب «المحيط» الذي استغرق إعداده قرابة قرن من الزمن، يسرد قصصاً شخصية وتطورات علمية ورؤية مستقبلية، ليكشف غموض وعجائب وهشاشة أكثر الموائل غموضًا على كوكبنا الأزرق: إنها المحيطات تلك التي تُشكل الأرض التي نعيش عليها، وتُنظم مناخنا، وتُنتج الهواء الذي نتنفسه، وقدرتها، في بعض الحالات، على التعافي بشكل أسرع، إذا منحناها الفرصة لنتمكن أن نرى عالمًا بحريًا مُستعادًا بالكامل، لا بل ربما أكثر ثراءً وروعة مما نأمل، إذا تحركنا الآن.
بداية هل هو محيط أم محيطات؟ أطلق أتينبورو وبوتفيلد على الكتاب اسم «المحيط» بدلاً من «المحيطات» لأن جميع المحيطات تُشكل كتلة مائية واحدة مترابطة تغطي حوالي 72 في المائة من مساحة سطح الأرض، وتحتوي على 94 في المائة من مخزون المياه على الكوكب، بينما أطول هجرةٍ لا تحدث للثدييات على اليابسة، بل في المحيط، حيث تقطع الحيتان الحدباء مسافة 80 ألف كيلومتر.
يعود أتينبورو إلى ثلاثينيات القرن الماضي ليتذكر أول لقاء له مع «المحيط» في حفريات الأمونيت التي جمعها من محجر قديم للحجر الجيري في ليسترشاير بإنجلترا، ثم يتذكر أنه في عام 1975 قام بأول غوصة سكوبا له في الحاجز المرجاني العظيم أثناء تصوير فيلم عن أستراليا.
رحلة الاستكشاف الطويلة لكوكبنا في هذا الكتاب يبدأ جزأها الأول بقصة خيالية عن حوت أزرق في خليج كاليفورنيا، صوّرها أتينبورو للفيلم الوثائقي «حياة الثدييات» عام 2001، مشيراً خلالها إلى أن عمر هذا الحوت حوالي تسعين عامًا، يُعادل عمر «رحلتنا في اكتشاف المحيطات الحديثة».
الجزء الرئيس والثاني من الكتاب يأخذ القارئ عبر ثمانية فصول في رحلة كوكبية لاستكشاف أشكال لا حصر لها من الحياة البحرية في مواطن متنوعة من الشعاب المرجانية وغابات الأعشاب البحرية وأشجار المانغروف إلى الأعماق والجزر والجبال البحرية والبحار القطبية.
تُعدّ الشعاب المرجانية حسب أتينبورو «المكان الذي نجد فيه أروع تشكيلة من الكائنات الحية في محيط العالم»؛ إنما للأسف أظهرت رحلات ميدانية كيف تضرر الحاجز المرجاني العظيم في أستراليا وهو الأكبر من نوعه في العالم، وكذلك تضررت الشعاب المرجانية الأخرى بسبب تغير المناخ والتلوث، مشيراً إلى أنه «في حياتي، فقد العالم أكثر من نصف شعابه المرجانية».
لكن الكتاب لا يقدم صورة متشائمة كما اعتدنا من المنافحين عن سلامة البيئة واستدامتها، بل يطرح بوادر أمل على الرغم من الضغط البيئي الهائل المُمارس على المحيطات؛ فعلى سبيل المثال: أدى الحظر الدولي على صيد الحيتان والفقمات لأغراض تجارية إلى زيادة أعداد هذه الكائنات البحرية؛ وقد ألهمت معاهدة أنتاركتيكا لعام 1959، التي خصصت أنتاركتيكا كقارة للعلوم، كذلك اتفاقية عام 1982 لتوسيع الحماية الدولية لتشمل النظم البيئية البحرية في أنتاركتيكا؛ وأُعيد إحياء منتزه كابو بولمو الوطني في باجا كاليفورنيا، الذي أُنشئ بفضل جهود مُنسّقة من قِبَل المجتمعات المحلية والعلماء والمسؤولين، للشعاب المرجانية التي كانت مُنقرضة في خليج كاليفورنيا.
إنها قصة الماء أو البحر أو المحيط، سمِّه ما شئت «لطالما تحدى البحر عقول البشر وخيالهم، ولا يزال حتى اليوم آخر الحدود العظيمة»، عن كتاب «البحر من حولنا» صدر عام 1961، لعالمة الأحياء البحرية راشيل كارسون، نقلاً عن رسول سوركابي بروفيسور الجيولوجيا بجامعة يوتا.
في خاتمة الكتاب، يُحذّر المؤلفان من عواقب تحمض المحيطات، والصيد الجائر، والبلاستيك، وأنواع التلوث الأخرى التي تُدمّر الحياة البحرية؛ إلا أنهما يُشيران أيضًا إلى أنه بالوعي العالمي، والإرادة، والتعاون، «يمكن للمحيط أن يتعافى؛ وتنمو أشجار المانغروف وغابات عشب البحر من جديد، وتعود الحيتان، وتزدهر المجتمعات الساحلية المُنقرضة من جديد».