: آخر تحديث
المصري كريم جمال استعاد جانبا منها في كتابه "أم كلثوم وسنوات المجهود الحربي"

كوكب الشرق والمغرب.. حكاية عشق لا تنتهي

2
2
2

إيلاف من الرباط: يحتفظ المغاربة لكوكب الشرق وسيدة الطرب العربي أم كلثوم بكثير من العشق والود. بالنسبة إليهم، تبقى "الست" التي غادرت هذه الدنيا الفانية منذ نصف قرن أكثر وأكبر من مجرد فنانة تميزت بأغانيها وقوة شخصيتها وحضورها، مادام أن لعلاقتهم بها أكثر من مدخل ورابط، بشكل جعلهم يحافظون على عشقهم لفنها وتقديرهم لما تمثله، مع استحضارهم المتواصل للحفلات التاريخية التي أحيتها في المملكة المغربية قبل  56 سنة.

 

 

ويستحضر المغاربة زيارة أم كلثوم للمغرب من أكثر من زاوية. فمنهم من يختصرها في صورة تؤرخ لأولى حفلاتها في الرباط، على خشبة مسرح محمد الخامس، اختارت خلالها أن ترتدي قفطانا مغربيا. ومنهم من يتذكرها وهي تبدع في أداء أجمل أغانيها الخالدة، من قبيل "رباعيات الخيام" و"الأطلال". ومنهم من يتذكر دورها في دفع مسؤولي البلد، وإن بطريقة غير مباشرة، إلى طلب جمع منجز الشاعر المغربي محمد بن إبراهيم، الملقب بـ"شاعر الحمراء" (1897 - 1955)، أو مضمون مقابلاتها مع الصحفيين التي تحدثت فيها، وقتها، بكثير من الحب والتقدير للمغرب، ملكا وشعبا.

أم كلثوم وسنوات المجهود الحربي
جاء كتاب "أم كلثوم وسنوات المجهود الحربي" للكاتب المصري كريم جمال، الصادر، أخيرا، عن دار تنمية للنشر، في سياق الحضور المتواصل لسيدة الطرب العربي في المشهد الفني العربي والعالمي،بشكل يؤكد قدرة الإبداع الراقي على الخلود والصمود في وجه الزمن.

وخصص جمال موضوع كتابه للحديث عن حملة الدعم التي دشنتها أم كلثوم، وقادتها إلى عدد من البلدان، في أعقاب هزيمة يونيو 1967، اعتمد فيه على عدة مصادر، أبرزها شهادات من عاشوا الحدث، فضلا عن أرشيف الصحف والمجلات المصرية والعربية، لذلك جاءت شهادات النقاد والقراء محتفية بالمؤلف، مع كثير من الثناء على الجهد الذي بذله صاحبه فيه، فكتبت عبلة الرويني، كما نقرأ على ظهر الغلاف،أننا أمام "وثيقة مهمة وجهد غير مسبوق، في رصد وصيانة تاريخ وذاكرة فنية، وبعض من السيرة الوطنية لأم كلثوم التي جعلت منها هرما من أهرامات القومية العربية".

أيام أم كلثوم في المغرب
خصص جمال فصلا كاملا، في حدود 38 صفحة، من أصل 608 الذي هو عدد صفحات الكتاب، للحديث عن الزيارة التاريخية التي قامت بها أم كلثوم إلى "المملكة المغربية التي كان لها موعد ولقاء معها في ثلاث ليال خلدت في الذاكرة المغربية إلى يومنا هذا"، كما جاء في هذا الفصل الذي أعطاه عنوان "أيام أم كلثوم في المغرب".

أحمد السنوسي وزير الاعلام الاسبق مع كوكب الشرق في الرباط

ما يستعيده جمال، في كتابه، عن زيارة أم كلثوم للمغرب، يتعدى الجانب الفني، ليستعيد سياقا تاريخيا تتداخل فيه العلاقات بين البلدين في علاقة بسياق إقليمي عاش بعض التوتر، على مستوى تاريخ العلاقات بين عدد من البلدان العربية. ومما نقرأ في هذا السياق: "منذ السنوات الفنية الأولى للسيدة أم كلثوم وهي توجه بوصلة رحلاتها الخارجية إلى دول المشرق العربي؛ وبالأخص بلاد الشام والعراق، ربما لتوافق مزاجهم الغنائي مع المزاج المصري، فلم تخرج أم كلثوم للغناء خارج القطر المصري إلا تلك البلاد القريبة. ولكن بعد عام 1967، تغيرت أهداف أم كلثوم، وصارت زيارة بلاد المغرب العربي غاية لها أكثر من سبب، خصوصا وأن بعض تلك البلاد كان قد دخل في عداوة مع النظام المصري وزعيمه، فكان غناؤها فيها مثل محاولة لمحو آثار السياسة وإزالة ملامح الفرقة بين تلك الشعوب العربية ومصر، فكانت المملكة المغربية هي أولى المحطات العربية في رحلة المجهود الحربي".

لذلك، يشير الكاتب إلى أن الزيارة جاءت "في سياق التقارب الفني الذي أراده بعض رجال القصر الملكي في المغرب بين مصر والمملكة المغربية، لإعادة شيء من الدفء للعلاقات بينهما ، التي عرفت الكثير من التوتر بعد حرب الرمال"، التي اندلعت بين المغرب والجزائر في أكتوبر 1963، بسبب مشاكل حدودية.

وسيعود الكاتب جمال ليشدد على أن الزيارة جاءت "في إطار سياسي بارد للعلاقة المصرية – المغربية بسبب مساندة الرئيس عبد الناصر للجزائر في نزاعها الحدودي مع المغرب".

لقاءات سابقة
قبل الحديث عن تفاصيل زيارتها في 1968، عاد الكاتب جمال إلى المصادر الصحفية التي تتحدث عن علاقة سابقة لأم كلثوم بالمغرب، حيث كتب: "نجد أن علاقتها بهذا البلد تعود إلى سنوات طويلة قبل هذا التاريخ من خلال لقائها بالعديد من مشاهير المغرب في القاهرة، سواء سياسيين أو مثقفين أو فنانين، وربما جاء أول احتكاك حقيقي بين السيدة أم كلثوم والمغرب عبر الفنانين المغاربة". ويستحضر الكاتب، في هذا السياق، محطات وتواريخ، يعود أولها إلى 1932، حين شارك وفد موسيقي مغربي في "مؤتمر الموسيقى العربية الأول"؛ ثم 1950، حين زار الباشا الكلاوي، باشا مراكش الشهير، القاهرة خلال رحلته إلى الحجاز من أجل أداء فريضة الحج. فيما كان "أول لقاء رسمي بين السيدة أم كلثوم وفرد من العائلة الملكية المغربية، مساء يوم الاثنين 18 يونيو 1956، حين أقيم احتفال ضخم في نادي الضباط في الزمالك ابتهاجا بجلاء القوات البريطانية عن مصر، وقد حضر الحفل الرئيس جمال عبد الناصر وقيادات القوات المسلحة المصرية، ومجموعة كبيرة من الضيوف العرب والأجانب الذين جاؤوا لتقديم التهنئة بنهاية الاحتلال البريطاني، وكان من ضمن الحضور ولي العهد الأمير مولاي الحسن (الملك الحسن الثاني لاحقا) الذي كان يشغل آنذاك منصب القائد الأعلى للقوات المسلحة الملكية المغربية. وبعد برنامج حافل بالفقرات الفنية، كان مسك الختام ظهور السيدة أم كلثوم على المسرح، حيث قدمت (أنشودة الجلاء)".

أم كلثوم وزلزال أغادير
سيتحدث الكاتب عن الحفل الكبير الذي أقيم في دار الأوبرا المصرية، بحضور الرئيس جمال عبد الناصر، يوم الخميس 14 يناير 1960، لتكريم ملك المملكة المغربية محمد الخامس، الذي جاء إلى مصر بمناسبة وضع الحجر الأساس لمشروع السد العالي، وافتتاح مشروع محطة كهرباء خزان أسوان.وسيتحدث الكتاب، هنا، عن حديث جمع أم كلثوم بملك المغرب. وأشار إلى أنه "قبل نهاية المقابلة، دعا الملك محمد الخامس السيدة أم كلثوم إلى زيارة المغرب في أقرب وقت، وشكرته أم كلثوم ووعدته بتنفيذ رغبته الكريمة، فكانت تلك أول دعوة رسمية توجه إلى السيدة أم كلثوم لزيارة المغرب العربي". ثم، يستدرك الكاتب قائلا : "ربما كانت تلك المقابلة الملكية هي الدافع الحقيقي وراء ذلك الموقف الذي اتخذته السيدة أم كلثوم بعد تلك الزيارة بأيام، حين وقع زلزال مدينة "أغادير" المغربية المدمر في 29 فبراير 1960، فهرعت أم كلثوم في ذات اليوم إلى دار السفارة المغربية بالقاهرة لتقديم المساعدات المالية، بل إنها أقامت حفلا لرعاية أهل مدينة "أغادير" في دار سينما "ريفولي" بالقاهرة ليلة 31 مارس 1960، إذ قدم دخل تلك الحلفة لصالح إعادة تعمير المدينة المنكوبة".

أم كلثوم مرتدية قفطانا مغربيا

بعد ذلك، سيتحدث الكاتب عن حضور الملك الحسن الثاني، في يوم الأحد 14 مارس 1965، أثناء زيارته للقاهرة، حفلا على شرفه في دار الأوبرا المصرية أحيته السيدة أم كلثوم، وقدمت فيه أغنيتها الجديدة "أنت الحب"، من كلمات الشاعر أحمد رامي وألحان الموسيقار محمد عبد الوهاب، مشيرا إلى أن العاهل المغربي سيقلد، بالمناسبة، ثلاثي الأغنية الجديدة وسام "الكفاءة ".

تبعا لكل هذا، سيشير الكاتب إلى أن "كل تلك اللقاءات المباشرة بين أم كلثوم ورجال وقادة المغرب ساعدت على التمهيد لتلك الزيارة التاريخية الكبيرة في عام 1968، التي جاءت بداية لبرنامج أم كلثوم للغناء في البلاد العربية من أجل دعم المجهود الحربي".

تسلم على الملك الراحل محمد الخامس حلال زيارته للقاهرة

كيف جاءت "الست" إلى المغرب؟
عرض الكاتب روايتين للاتفاق حول الرحلة التاريخية التي قامت بها أم كلثوم إلى المغرب، بينها رواية كتبها السفير المغربي السابق ادريس الكتاني، في شهادة طويلة بعنوان "كيف جاءت الست إلى المغرب؟"، أكد فيها أنه "صاحب فكرة دعوة السيدة أم كلثوم للغناء في المغرب، وأنه بمجرد أن فاتح علي بن يعيش حاجب الملك الحسن الثاني في تفاصيل تلك الزيارة، حتى تحمس الحاجب الملكي وبادر بالاتصال بوزير الأنباء المغربي أحمد السنوسي الذي أبدى موافقته على الزيارة من الناحية الإدارية، وقال لحاجب الملك إنه سيخبر الملك الحسن بهذا الاقتراح. وبالفعل، ما إن سمع الملك بالتفاصيل من وزير الأنباء حتى أكد أنه مستعد لتمويل تلك الزيارة بشكل شخصي، فليس من المعقول أن تتولى شركة خاصة تنظيم زيارة بذلك الحجم ولهذا الغرض الوطني. وبعد أيام قليلة، كان السفير الكتاني يجلس مع السفير المصري بالرباط حسن فهمي عبد المجيد في دار السفارة المصرية لتحديد ملامح الزيارة ومكان غناء السيدة أم كلثوم بل وتحديد برنامج الزيارة".

سيتم اختيار توقيت الزيارة، بحيث يتوافق مع عيد الجلوس السابع للملك الحسن الثاني على عرش المملكة المغربية، الشيء الذي يدل على أن "الزيارة تمت تحت إشراف الحكومة المغربية وتحيدا إشراف وزارة الأنباء، بجانب أن الملك الحسن ظل طوال الرحلة يتابع خطوات السيدة أم كلثوم داخل المغرب ويوجه حكومته على العمل على راحتها وراحة مرافقيها".

يشير كريم جمال إلى تحديد يوم الخميس 29 فبراير 1968 موعدا لوصول السيدة أم كلثوم وفرقتها الموسيقية إلى المملكة المغربية، وذلك على متن طائرة خاصة من نوع "كارفيل" لأن رحلات الطيران بين البلدين لم تكن منتظمة في ذلك الوقت.

و"منذ أن أعلن موعد وصول "الست" والتحضيرات قائمة في المملكة، فعلى الصعيد الرسمي "شكل الملك الحسن الثاني لجنة للاستقبال معظمها من الموسيقيين المغاربة، ترأسها الموسيقار المغربي أحمد البيضاوي (1918 – 1989)، وضمت الملحنين عبد القادر الراشدي (1929 - 1999) وعبد الوهاب أكومي(1918 - 1989)، وعزيز السغروشني مدير مسرح محمد الخامس الذي ستقف لتغني عليه أم كلثوم، بالإضافة إلى شخصيات رسمية مثل حسن فهمي عبد المجيد سفير الجمهورية العربية المتحدة بالرباط، والمهدي زنطار سفير المملكة المغربية بالقاهرة".

رحلة وصول مربكة
يتوسع الكاتب في الحديث عن تفاصيل رحلة وصول أم كلثوم إلى المغرب، حيث كان من المبرمج أن تصل بها الطائرة في حدود الساعة العاشرة والنصف مساء بمطار "الرباط سلا" الدولي، وكان كل شيء مهيئا لكي تستقبل الضيفة الكبيرة بما يليق بها من حفاوة؛ و"بعد طول ترقب وانتظار، أبى مسلسل التشويق إلا أن يمدد فصوله. فبعد أن حام قائد الطائرة قليلا في سماء مطار "الرباط سلا" الدولي، أبلغ أبراج المراقبة الداخلية في المطار بتعذر هبوطه بسبب الضباب الكثيف الذي يملأ أجواء المطار ويمنع الرؤية، وكذلك بسبب الأمطار التي أخذت تهطل بكثافة على أرض المطار، وأبلغ قائد الطائرة برج المراقبة أنه لن يغامر بهبوط غير محسوب العواقب لعدة اعتبارات أهمها أن الطائرة تحمل أغلى وأهم شخصية نسائية في العالم العربي كله، فما كان من برج المراقبة إلا أن أرسل إشارة سريعة إلى ربان الطائرة وطلب منه تغيير وجهة هبوط الطائرة إلى المطار الأقرب، الذي لم يكن سوى مطار مدينة الدار البيضاء التي تبعد مسافة 95 كيلومترا تقريبا عن العاصمة الرباط".

وذكر كريم جمال أن أم كلثوم ما إن هبطت بها الطائرة حتى "وجدت ساحة المطار فارغة، ولم تجد أحدا في انتظارها لأن جميع أعضاء اللجنة كانوا قد وصلوا متأخرين جدا بسبب السيناريو غير المنتظر"، فما كان من بعض مسؤولي المطار إلاالتطوع لإحضار بعض سيارات الأجرة من أجل نقل السيدة أم كلثوم إلى محل إقامتها في فندق "هيلتون" في العاصمة الرباط، وهناك سيلحق بها أعضاء لجنة الاستقبال، حيث تمت مراسيم الاستقبال. وبهذه "البداية المربكة والعصيبة، يقول الكاتب، بدأت إحدى أهم وأنجح رحلات السيدة أم كلثوم الخارجية في حياتها الفنية كلها وفي مسيرة رحلاتها لصالح المجهود الحربي".

يوم عظيم في المغرب
بعد يومين من إقامتها في المملكة، وقبل أول حفلاتها بيوم واحد وتحديدا في ليلة 3 مارس 1968، ستحضر أم كلثوم أول نشاط رسمي لها في المغرب، وهو الاحتفال بعيد العرش ( عيد الجلوس )، إذأقام الملك الحسن الثاني حفل عشاء كبير على شرف سيدة الطرب العربي في مسرح محمد الخامس. وكان الحفل فرصة لأم كلثوم حتى تألف المكان الذي ستغني فيه مساء اليوم التالي.

يذكر الكاتب جمال  أن الملك الحسن الثاني استقبل أم كلثوم فور وصولها، إلى مكان الحفل الذي حضره أمراء الاسرة المالكة والوزراء، و"قال لها بصوت مسموع للجميع "هذا يوم عظيم في حياة المغرب، وأنت في بلدك، ويسعدني أن أقول لك إن وجودك بيننا شرف لنا".

وأشار الكاتب إلى أن أم كلثوم التقت أيضا الأمير مولاي عبد الله العلوي (1935 - 1983) شقيق الملك الحسن الثاني، ودخلا في حديث طويل عن الفن والمعركة.

سيتحدث الكاتب عن التحضيرات للحفلات الثلاث، وكيف أن أكثر ما كان يشغل بال المغاربة هو إمكانية الحصول على التذكرة، مشيرا إلى أن التذاكر التي كان الحصول على واحدة منها من رابع المستحيلات، نفذت في الأيام الأولى من شهر مارس في مختلف منافذ البيع.

وبخلاف أزمة التذاكر، يضيف الكاتب، كان هناك شيء آخر يشغل بال بعض المغاربة قبل الحفل الأول، وهو التساؤل عن مدى قرب طريقة انفعال الجماهير المغربية بالطرب مقارنة بالطريقة المصرية التي اعتادتها السيدة أم كلثوم طوال حياتها الفنية، من منطلق أن الجمهور المغربي يعبر عن طربه بالصمت،وهو على عكس الجمهور المصري الذي يحركه النغم، فينفعل ويطرب ويتحرك ويثور ويصيح معبرا عن نشوته واستحسانه.

حل يوم الرابع من مارس 1968، فكان "يوما تاريخيا بكل المقاييس"، و"صارت العاصمة قبلة كل المغاربة وغيرهم من أبناء بلاد المغرب العربي، حتى الجزائريين نحوا خلافهم المزمن مع جارهم المغرب جانبا وقطعوا الطريق من الجزائر إلى المملكة المغربية بالطائرات والسيارات سعيا وراء صوت أم كلثوم، وجاء عشاقها من تونس والمملكة الليبية إلى الرباط ليعيشوا معها المشهد من بدايته، إذاعات الجزائر وتونس وليبيا والقاهرة تقوم منذ بداية اليوم بتجارب الأداء بعدما توقفت تردداتها على موجات الرباط في انتظار الحدث".

يتوسع الكاتب في استعراض ما رافق الحفلة الأولى، مشيرا إلى أنه قبل بداية توافد الجماهير المغربية على بوابات مسرح محمد الخامس، وصل أعضاء الحكومة المغربية برئاسة رئيس الوزراء الدكتور محمد بنهيمة (1924 - 1992) وأعضاء السلك الدبلوماسي وبعض الأمراء المغاربة. وفي ذات الوقت، وبعيدا عن أعين الإعلام، دخل إلى المقصورة الملكية بالمسرح الملك الحسن الثاني ومعه بعض المرافقين وجلسوا في المقصورة المعزولة نسبيا عن قاعة المسرح الرئيسية، والتي صمم لها مدخل خاص يسمح بدخول الملك دون أن يلاحظه أحد من الجماهير ومصوري الصحف".

قفطان أم كلثوم
ما إن امتلأت القاعة وتطلعت القلوب الى ركح المسرح حتى تحركت الستارة الخضراء، ثم انفرجت لتظهر المفاجأة الكبرى، أطلت أم كلثوم على الجماهير وهي ترتدي القفطان المغربي تحية لشعب المغرب،فضجت القاعة بالتصفيق والزغاريد لتلك اللفتة الكلثومية.

يتحدث كريم جمال عن القفطان الذي ارتدته أم كلثوم، مشيرا الى أن روايات عديدة قد رويت حول أصله، بعد أن "زعم أكثر من محل للألبسة التقليدية في المغرب أنه صاحبه، لكن تظل أقرب تلك الروايات للحقيقة ما صرحت به خديجة بنونة من عائلة بنونة المغربية الشهيرة في مدينة تطوان (شمال المغرب)، التي أكدت للتلفزيون المغربي أنها كانت تعرف مقاسات السيدة أم كلثوم من قبل، ودفعت به إلى خياط مغربي ليحيك للسيدة قفطانا مغربيا أنيقا، وقد استمر العمل في ذلك القفطان التقليدي أكثر من أسبوعين تقريبا، وعندما علم صاحب المحل أن ذلك القفطان سترتديه أم كلثوم في حفلها الأول رفض أن يأخذ أجره إكراما لسيدة الطرب العربي".

أمل حياتي
سيتحدث كريم جمال عن السهرة الأولى، التي افتتحتها أم كلثوم بأغنية "أمل حياتي"، متوقفا عند الطريقة التي أدتها بها، أتبعتها بأغنية "الأطلال، بدت كما لو أن "أطلال ناجي كتب لها أن تبعث من جديد تحت سماء الرباط، وتغدو قصورا مشيدة بالمرمر والزجاج، إذ أدتها أم كلثوم بطريقة اختلفت عن المرات التي غنتها فيها من قبل".

ونقل الكاتب عن أم كلثوم قولها ، عقب نهاية الحفل الأول، أنها "كانت مستعدة لأن تغني حتى الصباح بسبب ما لاقته من الجمهور المغربي من تجاوب عجيب، فاق كل التوقعات وتخطى حدود تفاعله مع الغناء للمرة الأولى في تاريخه الفني العريق".

شعب عظيم
تطرق كريم جمال إلى الصدى الإيجابي الذي خلفته الحفلة الأولى، مشيرا إلى أن الفرح بليلة أم كلثوم الأولى في المغرب امتد إلى الوطن العربي كله، وخصوصا بلاد الشمال الإفريقي التي سهرت مع صوتها عبر موجات إذاعة الرباط، فحفلت الصحافة العربية بصور الحفلة الأولى وعقبت الصحف على القفطان المغربي الذي أطلت به سيدة الغناء العربي على المغاربة". وقالت السيدة أم كلثوم، خلال المؤتمر الصحفي الضخم، الذي نظمته لها وزارة الأنباء المغربية: "أشكر جلالة ملك المغرب العظيم وشعب 

المغرب على الحفاوة والإكرام الذي قوبلت به، وإنني أحس  بسعادة عارمة تغمرني وأنا أزور المغرب، هذه الزيارة التي طالما انتظرتها وتهيأت لها".

في معرض إجاباتها، على أسئلة الصحفيين، أثنت أم كلثوم على الجمهور المغربي، فقالت: "تأثرت كثيرا لحساسية وتذوق الجمهور المغربي لدرجة أذهلتني،إنني مسرورة جدا".

كما وجه لها سؤال حول رأيها في القفطان المغربي،فقالت،وهي تبتسم، إنها أعجبت جدا به، وأنها سترتديه في أول سهرة لها بالقاهرة.

عيد في المغرب
يشير كريم جمال إلى أن أجواء مسرح محمد الخامس، في مساء يوم 8 مارس 1968، كانت أكثر حماسة، فحضر الأمير مولاي عبد الله، شقيق الملك الحسن الثاني، بعدما اضطرته الظروف للغياب عن الحلفة الأولى. وذكر الكاتب أن الأمير مولاي عبد الله قابل السيدة أم كلثوم قبل أن يرفع الستار، وطلب منها أن تعيد غناء "الأطلال"، رغم تجهيزها لأغنية "فكروني"، فوافقت وطلبت من الفرقة الاستعداد لذلك الطلب السامي. بعدها أدت أم كلثوم أغنية "فات الميعاد".

يشير الكاتب إلى أن العاشر من مارس، أي يومان بعد الحفل الثاني، صادف احتفال المغاربة بعيد الأضحى. وأضاف أن الملك الحسن الثاني، أهدى للسيدة أم كلثوم كبش العيد، حتى تضحي وتقيم الشعائر الدينية تماما مثل المغاربة، فأصرت على نحر الأضحية في بيت أسرة مغربية، فوقع الاختيار على سائق بسيط من مدينة الرباط، فشاركتهم فرحة العيد، قبل أن تتوجه إلى دار الموسيقار المغربي الكبير أحمد البيضاوي، الذي استقبلها مع فرقته الموسيقية وقدم لها ألوانا طربية من الفن المغربي. كما زارت بيت السفير المصري، وتناولت معه ومع أسرته الطعام المصري، كي تشعر أنها في القاهرة التي غابت عنها في تلك المناسبة الدينية.

ثلاثة أبطال
في يوم 12 مارس 1968، كان الموعد مع ثالث حفلات أم كلثوم في المغرب. وذكر كريم جمال أن الكثيرين من هواة غناء أم كلثوم يرون أن هذا الحفل هو "قمة العطاء الكلثومي في سنواتها الأخيرة، بل إن هذه الحفلة يمكن تصنيفها واحدة من أفضل عشر حفلات قدمتها السيدة أم كلثوم طوال تاريخها الفني الطويل، وذلك لأنها كانت في أفضل حالاتها الفنية، بعدما استأنست بالمغرب وأهله، وألفت الجمهور المغربي وتجاوبه وانفعاله، وربما ساعد على ذلك أيضا ما لمسته من محبة وتقدير على المستويين الشعبي والرسمي، كل تلك العوامل جعلت أم كلثوم في قمة سلطنتها الغنائية وفي أعلى مراتب التجاوب النغمي".

ورأى كريم جمال أن لحفل 12 مارس 1968 ثلاثة أبطال، أولا ، الصحافة المغربية التي ظلت تنشر يوميا تساؤلات حول الأغنيات التي ستقدمها أم كلثوم، وثانيا ، الجمهور المغربي، وثالثا ،أم كلثوم التي ستغني "رباعيات الخيام"، و"هو صحيح الهوى غلاب".

يشير الكاتب إلى أن السهرة الثالثة كانت "استثنائية بكل المقاييس"، كما كان "تنظيمها محكما"، وهو ما انعكس إيجابا على شباك التذاكر.

أم كلثوم والجوق المغربي
بعد انقضاء السهرات الثلاث، لبت السيدة أم كلثوم دعوة الأمير مولاي عبد الله وزوجته الأميرة لمياء الصلح، لحفل حفل عشاء في قصرهما. كما دعا الأمير المغربي أعضاء الجوق الوطني المغربي من أجل تنشيط الموسيقى المغربية، وتقديم بعض الفقرات والموشحات الدينية كي تتعرف السيدة أم كلثوم على الموروث الغنائي للمملكة. هنا، يشير الكاتب إلى أن السيدة أم كلثوم استمتعت بأغنية "يا رسول الله خذ بيدي"، وكيف أنها فجأة، ودون أي مقدمات، وقفت في مكانها، وتقدمت نحو الفرقة الموسيقية في لحظة مؤثرة وانفعالية، لتشترك مع الجوق المغربي في الغناء.

وسيشير الكاتب إلى أن أم كلثوم ستروي لاحقا أنها انفعلت بذلك الموشح الديني، ورددته مع المجموعة لحاجة في نفسها، وأنها كانت "تقصد بالتأكيد النصر في المعركة".

كما سيشير كريم جمال إلى أن القدر سيحفظ تسجيلا لهذا التوشيح الديني بصوت أم كلثوم، عندما أعادت غناءه أمام الملك الحسن الثاني في السهرة التي أقامتها خصيصا له في فندق "السعدي" بمدينة مراكش ليلة 16 مارس 1968، وحضرها أفراد من العائلة الملكية والوزراء ورجال الحاشية الملكية.

جولة سياحية
على هامش زيارتها للمغرب،ستستغل أم كلثوم فرصة انتهاء الحفلات المبرمجة، لتقوم بجولات في عدد من مدن المملكة؛ وهكذا، زارت تطوان، ثم مكناس التي لفت نظرها فيها جمال العمارة العربية الإسلامية، وتحديدا الزخارف الأندلسية. ثم زارت فاس والدار البيضاء.

يذكر الكاتب أن أم كلثوم بكت من فرط حماس أهل مدينة فاس وحفاوتهم بها، مشيرا إلى قولها: "شعب المغرب أسرني بعواطفه وحسن استقباله ومشاعره نحو مصر، ولا أستطيع أن أعبر بالكلمات عن مدى شعوري تجاه الشعب في المغرب، قابلوني هكذا لأني من مصر .. قطعة من مصر".

أيام كالحلم
يذكر الكاتب أن أم كلثوم ستمدد زيارتها إلى المغرب أياما أخرى. وسيشير إلى أن أيامها في المغرب "ذهبت كالحلم"، فيما "عاش المغرب أياما غالية، تهدم خلالها بعض من جدران الصمت التي فصلت لسنوات عدة بين المغرب ومصر". ومما قالت السيدة أم كلثوم، عن أثر زيارتها للمغرب: "كأن العدوان وقع عليهم، لقد وجدت هناك أكثر ما كنت أرجو، كان اسم مصر يتردد على أكثر من فم وفي أكثر من صحيفة، ماذا تريد أكثر من ذلك؟".

في صباح يوم 20 مارس 1968، وقبل أن تتوجه رفقة مرافقيها إلى مطار الرباط – سلا، كتبت أم كلثوم برقيتي شكر، الأولى إلى الملك الحسن الثاني الذي أحاطها برعايته طوال مدة الزيارة، وجاء فيها: "قبل أن أغادر أرض المغرب الحبيب أتشرف بأن أرفع إلى حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم الحسن الثاني عظيم الشكر وامتناني لما لاقيته أنا وزملائي من رعاية وحب وحفاوة بالغة، راجية الله سبحانه أن يحفظ جلالتكم وولي عهدكم المحبوب الأمير سيدي محمد، وأن يكل الشعب المغربي بعين رعايته في ظل ملكه العزيز الساهر على تحقيق تقدم المغرب".أما البرقية الثانية، فكانت إلى الوزير أحمد السنوسي، وزير الأنباء، المسؤول الأول الذي أشرف على تفاصيل تلك الزيارة.  

يوم الوداع
يشير كريم جمال إلى أنه كما كان وصول أم كلثوم إلى المغرب حافلا بالمشاعر والمحبة، كذلك كان يوم الوداع.

ثم أضاف: "بعد أن استراحت السيدة أم كلثوم قليلا في قاعة كبار الزوار في مطار - الرباط، توجهت إلى سلم الطائرة وهي متأثرة بحرارة ودفء الوداع الذي أحيطت به منذ بداية اليوم، وصعدت سلم الطائرة بخطى متثاقلة وكأنها لا تريد مغادرة ذلك البلد الذي أعطاها من المحبة فوق ما كانت تتخيل".

 

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في ثقافات