: آخر تحديث
"فن يهمس أكثر مما يصرخ ويثير أكثر مما يفسّر"

عليا أحمد تحوّل لوحاتها إلى تجربة آسرة في معرض منفرد في لندن

15
15
9

إيلاف من لندن: بإيقاع بصري هادئ، وبعلاقة تأملية مع الذاكرة والمكان، قدّمت الفنانة السعودية عليا أحمد معرضها الفردي "Fields / ميادين" في غاليري وايت كيوب – ميسونز يارد (White Cube Mason’s Yard)، والذي استمر من 28 شباط (فبراير) حتى 5 نيسان (أبريل) 2025.

تستند أعمال أحمد إلى الذاكرة والرصد البصري، متجذّرة في مدينتها الأم الرياض، حيث تستكشف من خلالها العلاقات المتداخلة بين المكان، الهوية، والذاكرة الثقافية. في لوحاتها النابضة بالحركة، وإيماءاتها اللونية الحادّة، كما في رسوماتها الأحادية الدقيقة، تستحضر عليا مشاهد من نباتات متنوّعة، شبكات عضوية، وامتدادات مفتوحة واسعة، تعكس تضاريس الرياض الغنية والمركّبة.

عليا أحمد في مرسمها بمدينة الرياض
عليا أحمد في مرسمها بمدينة الرياض

تجربة وجدانية آسرة
زرتُ المعرض ووجدت نفسي أصف التجربة بعبارة: "حين تتلاشى حدود الواقع في شيء أكثر عمقًا"، وهو اقتباس يلخّص الجوهر العام لأعمال عليا أحمد المعروضة: تجارب حسية وبصرية لا تسعى إلى التفسير، بل تدفعك إلى الغوص في غموضها الداخلي. المبنى نفسه بدا لي كما لو كان مصممًا بدقة ليحتضن أعمال عليا. الجدران البيضاء العالية والمساحات الواسعة تتيح للوحات الكبيرة – بعضها يصل إلى 3.6 متر عرضًا – أن تتنفس وتُغرق الزائر في عوالمها الخاصة.

حميض | لوحة زيتية
حميض (٢٠٢٥) زيت على قماش (٢٤٣ × ٣٦٥ سم)
بالنسبة لي، تبرز لوحة "روبي دوك، وايلد فلاور" (2024) كعمل يربك المشاهد: هل يمكنني تعريف هذه الأشكال؟ ومع ذلك، يظل الانجذاب للعمل قائمًا ككل. شعرت أن لوحة الألوان الغريبة تسمح للفرشاة بأن ترقص عبر القماش، فتخلق انسجامًا استثنائيًا في التكوين والعمق!

رُحلْ | لوحة زيتية
(٢٠٢٥) رُحلْ زيت على قماش (٢٤٣ × ٣٦٥ سم)

في لوحة "دريفتِر" (2024)، بالحجم ذاته، لفتني الاعتماد على ألوان أرضية هادئة، مع تباين دقيق بين الضوء والظل. عناصر الزهور والطبيعة في التكوين جذبتني كمتلقية، ودعتني إلى الدخول في حوار بصري مع تفاصيل العمل.

رغم أن أعمال عليا أحمد تستحضر روح سلفادور دالي من حيث التأثير، فإنها بالنسبة لي تقدم تجربة مختلفة جذريًا. فبينما يرسم دالي بدقة فوتوغرافية، تخلق عليا من بعيد تأثيرًا مشوشًا مكبّرًا، يجعل من أشكالها الغامضة تجربة حلمية يصعب تحقيقها.

وأرى أن رفض عليا للتصنيف يجعل من لوحاتها حالة بصرية نادرة. فهي لا تنتمي إلى التصوير الواقعي الصريح ولا إلى التجريد الكامل، بل تتأرجح بين الإيحاء والوهم، وتخلق فضاءً بصريًا متحررًا من القوالب.

ما يميز عليا أحمد أيضًا في رأيي هو علاقتها الفريدة باللون، حيث تستخدمه كإيقاع داخلي. في بعض الأعمال، تكون الألوان جريئة وغريبة، وتصبح ضربات الفرشاة جامحة، مليئة بطاقة وفوضى متناغمة. وفي أخرى، تهدأ النغمة اللونية إلى درجات ترابية، فتصبح الأشكال لينة، تنساب برقة تأملية. هذا التباين بين الصخب البصري والسكون الداخلي يخلق ما أصفه بـ"الإيقاع العاطفي"، الذي يجذب المتلقي نحو تأمل عميق في معاني اللوحة.

عليا أحمد في صعود متواصل. فمنذ تخرّجها في الكلية الملكية للفنون في لندن عام 2020، حاملة درجة الماجستير، استطاعت الفنانة السعودية، المقيمة في الرياض، أن ترسّخ حضورها داخل المشهد الفني المحلي عبر سلسلة من المعارض الفردية، كما لفتت الأنظار على المستوى الدولي بفضل لوحاتها التعبيرية التجريدية التي تستلهم من الطبيعة والمشهد الحضري في وطنها.

لا ترى أحمد اللوحة ككائن بصري فحسب، بل ككيان حيّ يتفاعل اجتماعيًا. تقول إنّها تعتبر اللوحات "مساحات اجتماعية" و"مخططات أولية" في آن واحد، مما يكشف عن رؤيتها للوحة كموقع للتفكير الجماعي والبناء الرمزي، لا كجماليات معلّقة في فراغ.

سارة فون كينيغر تقف أمام اللوحة الزيتية
سارة فون كينيغر أمام اللوحة الزيتية "روبي دوك، وايلد فلاور"

ما تقدّمه عليا، من وجهة نظري، ليس مجرد عرض فني، بل تجربة حسية كاملة. كل عمل منها يفتح حوارًا داخليًا بين المشاهد والذات، ويدفعه إلى التأمل في المسافة المموّهة بين الواقع والحلم. أُوجز هذا الشعور في جملة ختامية واضحة: فنها يتحوّل إلى تجربة، حوار صامت بين الفنانة والمُشاهد، حيث تتلاشى حدود الواقع في شيء أكثر عمقًا. تعبير لا يصف فقط مضمون اللوحات، بل يلخص الأثر الذي تتركه على المتلقي: فن يهمس أكثر مما يصرخ، ويثير أكثر مما يفسّر!


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في ثقافات