يتطوّر تفكير الطفل العربي اليوم بوتيرة تسبق سنوات عمره. فمنذ سنواته الأولى، يجد نفسه محاطًا بالأجهزة الذكية، ويتفاعل مع تقنيات الذكاء الاصطناعي، ويكتسب مهارات بصرية وسمعية ولغوية متقدمة عبر التطبيقات الرقمية التي تتطور بلمح البصر. وبالرغم من هذا الانفجار التقني، تبقى المناهج الدراسية في كثير من الدول العربية حبيسة الورق، وأحيانًا لا تُحدَّث إلا كل عقد من الزمن... فالطفل يعيش في عام 2026، بينما مناهجه الدراسية عالقة في تسعينيات القرن الماضي!
اليوم، طفل في السابعة قد يُجيد استخدام الحاسوب أكثر من معلمه، ويفهم مفاهيم الألعاب ثلاثية الأبعاد أكثر مما يُعرض عليه في كتاب الرياضيات. يتعلم لغات جديدة عبر التطبيقات، ويطوّر مهارات التفكير المنطقي عبر ألعاب البرمجة المصممة للأطفال.
لكنَّ المدرسة - في كثير من الأحيان - لا تعترف بهذا الواقع؛ فالحصة الدراسية ما زالت تعتمد على التلقين، والامتحان يقيس الحفظ لا الفهم، والمعلم يرفض أي "إجابة مختلفة" عن النموذج المعتمد، حتى لو كانت أكثر إبداعًا.
هنا، تتشكّل فجوة خطيرة: بين عقل طفل يتطور رقميًا، ومنهج يتجمد ورقيًا... لا يعود الطفل متحمسًا للتعلم داخل الصف، ولكنه يبحث خارجه: في "يوتيوب"، و"تيك توك"، والألعاب التفاعلية. وهنا تكمن الخطورة. فالمصادر البديلة للتعلم، بالرغم من ثرائها، لا تخضع لضوابط تربوية، ولا تزرع القيم ولا تبني التفكير النقدي كما يجب.
قد يقول البعض: "نحن بحاجة إلى وقت لتغيير المناهج." ولكن الحقيقة أن الوقت قد مضى. تأخرنا كثيرًا. والمشكلة ليست فقط في تحديث الكتب، وإنما في إعادة تعريف ما معنى التعليم في هذا العصر.
في دول مثل فنلندا وسنغافورة، يُعاد تقويم المناهج كل عامين أو ثلاثة، وتُدخل التكنولوجيا كوسيلة تعليم وكمكوّن أساسي للفكر والتحليل والإبداع.
نحن لا نحتاج فقط إلى مناهج "رقمية"، وإنما إلى مناهج "واقعية" تعترف بمن هو الطفل اليوم. نحتاج إلى: تعليم يُدمج البرمجة والذكاء الاصطناعي منذ الصفوف الأولى. مناهج تُدرّب الطفل على التفكير النقدي. معلمين يتلقون تدريبات مستمرة على أدوات التعليم الحديثة. منظومة تربوية تُعيد تعريف النجاح، بعيدًا عن الورقة والقلم فقط.
الطفل العربي اليوم يعيش في فراغ تربوي... إنه يرى، ويسمع، ويتفاعل، ويقارن. وإن لم يجد في المدرسة بيئة تشبهه وتفهمه، فلن يُقبل عليها. لا نريد لأجيالنا أن تصبح ضحية جيل "لا يعرف" ولا "يعترف". فالتعليم عقل يُعاد تشكيله كل يوم وتتطور مناهجه كلما اقتضت الحاجة.