في عالم يُقاس فيه الإنسان بعدد إنجازاته، وتُقاس الراحة فيه بعدد خطواتها على السلم الوظيفي، تبدو فكرة "اللاشيء" فعلاً مستحيلاً، بل وخطيئة تُرتكب في وضح النهار. فالزمن الراهن لا يتيح لأحد أن يتوقف دون أن يشعر بالذنب. حتى حين نستلقي، علينا أن "نرتاح بفعالية"، أن "نأخذ استراحة منتجة"، أن "نعيد شحن طاقتنا" لنعود فوراً إلى حلبة الركض.
لكن ماذا لو كان العكس هو الصحيح؟ ماذا لو كان الكسل – ذاك المتهم الأبدي – هو لحظة الوعي الأكثر صفاءً؟ وماذا لو كانت فترات التوقف هي التربة التي تُزرع فيها بذور الإبداع؟ ماذا لو كانت "اللا إنتاجية" عملاً في حد ذاتها، فعلاً مضاداً لصخب العالم، وصوتاً خافتاً يذكرنا بأننا بشر قبل أن نكون آلات؟
بعد الجائحة، حين أُجبر الناس على التوقف قسراً، بدأ سؤال الكسل يعود من الظل: هل نملك حقاً وقتاً لأن نكون؟ وهل الراحة خطيئة أم فريضة إنسانية؟ الكل شعر بذلك التوتر بين الحبس الجسدي والانفلات الزمني، بين العطالة وبين الوعي بأن لا أحد يطلب منك شيئاً، ولا حتى نفسك.
هذا القلق من السكون ليس جديداً. منذ أكثر من قرن، كتب بول لافارج "الحق في الكسل"، مذكّراً بأن الحضارة لا تقف على أكتاف العمّال وحدهم، بل تنهار حين تُرهقهم. اقترح تقليص ساعات العمل لا كسلاً بل كي يستعيد الإنسان دوره ككائن يشعر، ويتأمل، ويعيش. ومن بعده جاء الفيلسوف خوان إيفاريستو فالس، ليعطي الكسل بعداً وجودياً، فـ"العمل"، كما قال، أصبح شكلاً من أشكال السيطرة، بينما الكسل مقاومة ناعمة لنظام لا يعترف إلا بمن يركض.
لكن المشكلة أعمق من ذلك. نحن لا نعمل فحسب، بل نحمل العمل في جيوبنا وهواتفنا وعقولنا، حتى ونحن في السرير. الحدود بين العمل والحياة الشخصية انمحت، والجيل الجديد – جيل الألفية – لم ينل من "حرية العصر" سوى عبء الاختيار الدائم، وسوط المقارنة، وهاجس الإنجاز الذي لا يهدأ.
وكما كتب أنتوني غوتيريز روبي، لقد أصبح التفكير، والقول، والفعل، يتلاحقون بسرعة البرق. لم يعد هناك زمن بين اللحظات. كل شيء يجب أن يحدث الآن. لكن ميهالي تشيكسينتميهالي يذكّرنا في كتابه "الإبداع" أن الإبداع يتطلب ترف الانتباه، ورفاهية الوقت، وهامشاً من اللاجدوى.
وهكذا، يصبح الكسل ليس كسلاً، بل فعلاً مقاوماً، لحظة نادرة نعود فيها لأنفسنا، لا لننتج، بل لنستمع. وكما أن بعض الثقافات باتت تعترف بالموت من فرط العمل – كما في "كاروشي" اليابانية – فإن السؤال المطروح اليوم ليس كيف ننجز أكثر، بل: كيف نعيش أكثر؟ كيف نوازن بين أن نكون فاعلين وأن نبقى أحياء؟
ربما لا توجد إجابة نهائية. لكن لعل أول خطوة نحو الحل تبدأ من منح أنفسنا إذناً مؤقتاً بالكسل... لا باعتباره لحظة ضعف، بل قصيدة تُرتّل بصمت ضد ضجيج العالم.