: آخر تحديث

إيران وإسرائيل.. أخيرًا وجهًا لوجه

2
1
2

في منطقة لا تعرف السكون، وتتقاطع فيها أطماع القوى الإقليمية والدولية، غالبًا ما تتجاوز التحركات العسكرية إطار التكتيك العسكري المحدود، لتتحول إلى رسائل استراتيجية مُشَفّرة تعكس موازين النفوذ والتحالفات. ومن بين أبرز محاور هذا التوتر، تبرز العلاقة المتوترة بين إيران وإسرائيل، التي ظلّت لعقود محصورة في دائرة الاشتباك غير المباشر، عبر فصائل تدير معاركها بالوكالة. غير أن التحول الأخير نحو مواجهة مباشرة بين الطرفين يمثل تطورًا لافتًا يستوجب قراءة متأنية، بعيدًا عن العواطف والانحيازات الأيديولوجية. فالحرب، في جوهرها، تظل حدثًا ضاغطًا يعيد ترتيب الأولويات، ويجبر الأطراف المتصارعة على إعادة النظر في حساباتها، بما يتجاوز ميادين القتال ليصل إلى عمق المعادلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

بالنسبة إليَّ، كان خبر اندلاع المواجهة العسكرية المباشرة بين إيران وإسرائيل نقطة تحول تستحق التوقف، لا لأنني أميل إلى الحروب أو أتمنى اشتعال الصراعات، بل لأنَّ هذه اللحظة شكّلت تحولًا جوهريًا في ميزان القوى الذي ظل مختلًّا لعقود. طوال سنوات مضت، كانت إسرائيل تخوض حروبًا ضد وكلاء إيران من الفصائل المسلحة، في مقدمتهم حماس في غزة، وحزب الله في لبنان، والحوثيون في اليمن مؤخرًا. كانت تلك مواجهات غير متكافئة من حيث التدريب والتجهيز والدعم، فالفصائل تعتمد على تكتيكات المقاومة بأسلحة محدودة، في حين تتمتع إسرائيل بجيش نظامي مدعوم بأقوى التقنيات والمعلومات الاستخبارية.

اليوم، وللمرة الأولى، تواجه إسرائيل خصمًا بحجمها، جيشًا نظاميًا مسلحًا، لا ميليشيا تعمل في الظل. المعادلة تغيّرت، وأصبحنا أمام مواجهة مباشرة بين جيشين يمتلكان العتاد والخبرة، وإن تفاوتا في بعض التفاصيل. في مثل هذه الحروب، لا ينتصر الأقوى بالضرورة، بل من يمتلك المعلومات الدقيقة وخرائط المواقع الحساسة، ومن يقرأ المشهد العسكري والسياسي بحنكة. إسرائيل منهكة اقتصاديًا ومعنويًا بعد سلسلة من الحروب المرهقة والضغوط الداخلية المتزايدة، وإيران تعاني من اختناق اقتصادي جراء العقوبات، لكنَّها تخوض هذه المعركة بروح عالية، مدفوعة بدعم معنوي من شريحة واسعة من المسلمين الذين يرون فيها طرفًا يقاتل قوى تُوصَف في الوعي الجمعي بأنها "الشر" ومحتلة لأراضٍ عربية.

ومنذ بداية الاشتباك العسكري المباشر بين الجانبين، تكبّد الطرفان خسائر بشرية ومادية متسارعة. حتى لحظة كتابة هذه السطور، تشير التقديرات إلى مقتل ما لا يقل عن 220 شخصًا في إيران، معظمهم في منشآت عسكرية ومستودعات أسلحة استُهدفت بضربات دقيقة، فيما قُتل نحو 27 إسرائيليًا، بينهم جنود في مواقع حدودية ووحدات جوية. كما تضررت منشآت نووية ومراكز قيادة داخل إيران، في حين أصابت الضربات الإيرانية أهدافًا عسكرية واقتصادية في تل أبيب وحيفا وبئر السبع، بما في ذلك موانئ ومستودعات وقواعد جوية، وبعض الأضرار وصلت إلى منشآت حيوية كشبكات الكهرباء والمياه.

أمَّا على صعيد الخسائر الاقتصادية، فتُظهر تقارير أولية أن فاتورة الحرب اليومية على الجانبين تتجاوز حاجز 1.2 مليار دولار يوميًا، تشمل تكاليف الإطلاق والاعتراض والتعبئة وتدمير البنى التحتية. إسرائيل وحدها تنفق قرابة 700 مليون دولار يوميًا، وهي فاتورة مرشحة للتصاعد في حال دخول الحرب مرحلة أوسع، لا سيما في ظل الحاجة إلى تعويض الاحتياطات الجوية والصاروخية. أما إيران، وبرغم كلفتها الأقل نسبيًا، إلا أن الحرب تستهلك من مخزونها الاستراتيجي وتضاعف الضغوط على اقتصادها المتعب أصلًا.

وبرغم كل ما في الحرب من مآسٍ، فإن هذه المواجهة المباشرة تحمل بنظري بُعدًا من العدالة، ليس لأنها تحقق توازنًا ماديًا فقط، بل لأنها تعيد ترتيب المعادلة: من يختار الحرب سيدفع ثمنها بنفسه، ولن يزجّ بأطراف أخرى لتكون وقودًا لمعاركه. المواجهة المباشرة قد تُسرّع من لحظة المراجعة والتفاوض، لأن كل طرف يدرك أن مغامرته غير المحسوبة ستكون مكلفة، وقد تؤدي إلى استنزاف لا قدرة له على احتماله.

قد لا ينتصر أحد في هذه الحرب، وقد لا نرى نهاية واضحة في الأفق القريب، لكن مجرد انتقال الصراع من ساحة الوكلاء إلى ساحة المواجهة المباشرة بين الدولتين، يجعلنا نقترب ولو نظريًا من لحظة وعي جماعي بأن الحروب ليست نزهة، وأن القوة الحقيقية ليست في كثافة القصف، بل في القدرة على تجنيب الشعوب ويلات الدمار. ومن هذا المنطلق، كان الخبر بالنسبة لي بداية مرحلة جديدة، تُكتب فيها التكاليف على من يقرّر إشعال النار، لا على من يُفرض عليه أن يحترق بها.

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.