من "مقال قليل الدسم" إلى "منصات بلا ضوابط":
في يوليو 2003، كتبتُ في زاويتي "نافذة" بصحيفة عكاظ مقالاً بعنوان: «مقال قليل الدسم»، عن التحول الغريب في مفهوم الرقابة، حيث تحولت من عملية رقابية تقليدية إلى "فن من الفنون الحديثة" يمارسه الجميع، من رئيس التحرير إلى أصغر مراسل، لينتهي به الحال، بعد المرور على طابور الرقابة، إلى نسخة "منزوعة الدسم"، خفيفة الهضم، خالية من أي أثر فعّال!
اليوم، بعد أكثر من عقدين، نجد أن المشهد الإعلامي قد شهد تحولاً جذرياً، حيث أصبحت المنصات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي تقدم ما تحجبه الصحف التقليدية، وصار الرقيب ـ رغم تضخمه في بعض الصحف الورقية ـ عاجزاً عن اللحاق بفضاء الإعلام الجديد، حيث أصبحت المعلومة تسبق الصحيفة، والخبر يكسر القيد قبل أن يُوضع له عنوان فرعي.
من يستطيع اليوم أن "يراقب" تويتر أو يوتيوب أو تيك توك؟
ومن يملك أن يحذف بثاً مباشراً، أو يطارد تغريدة ذكية، أو يحجب بودكاستاً يتداوله الملايين؟
لقد أخرج الإعلام الجديد الصحافة الورقية من المعادلة، حتى باتت بعض الصحف تبحث عن قارئ، لا قارئ يبحث عنها! وهبط توزيع بعضها إلى أرقام لا تسمح حتى باستمرار الطباعة، فكيف بالاستقلال أو التأثير؟
موت الصحافة الورقية وولادة الفوضى الرقمية:
لم تعد الرقابة التقليدية التي وصفتها في مقالي السابق ذات جدوى في عصرنا الحالي، فالصحف الورقية - التي كانت تخضع لـ"وعاء الضغط" الرقابي - تعاني اليوم من:
انخفاض حاد في القراء: حيث تحول الجمهور إلى المنصات الرقمية التي تقدم محتوى غير خاضع للرقابة التقليدية.
أزمة مالية: لم تعد العديد من الصحف قادرة على الصدور بانتظام بسبب قلة الإقبال.
فقدان المصداقية: نتيجة المبالغة في الرقابة الذاتية التي تجعل المحتوى "قليل الدسم" كما وصفت، مما دفع القراء للبحث عن مصادر أخرى.
لكن المفارقة أن هذه الحرية الظاهرية في الإعلام الرقمي لم تكن سوى وهم، فقد حلت محل الرقابة التقليدية آليات أكثر تعقيداً للتحكم في المحتوى، وظهرت أشكال جديدة من الرقابة قد تكون أكثر خطورة وخداعاً.
الرقابة الذكية في العصر الرقمي:
في حين أن الرقابة التقليدية كانت واضحة ومباشرة، فإن الرقابة في العصر الرقمي تتخذ أشكالاً أكثر دهاءً:
زيادة الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في مراقبة المحتوى وتصنيفه.
توسع مفهوم الأمن القومي ليشمل حجب أي محتوى قد يسبب "اضطراباً اجتماعياً".
صعود الصحافة المواطنة التي تتحدى الرقابة التقليدية ولكنها تواجه رقابة خوارزمية.
الرقابة الاقتصادية عبر حرمان المواقع الإخبارية المستقلة من عائدات الإعلانات.
وهكذا ما زال البعض، هنا وهناك، يصر على ممارسة دور الرقيب، كأن شيئاً لم يتغير، متناسين أن المنصات الرقمية جعلت من الرقابة نكتة سمجة في عصر "المحتوى الحرّ".
لكن… هل بقيت أمريكا حقاً كما عهدناها؟!
لقد كنا ـ ولا نزال ـ نظن أن الولايات المتحدة هي الحاضنة الكبرى لحرية التعبير، وأنها أم الديمقراطية وأباها، بل و"خالها" كما في نُكتنا المفضّلة! لكن ما رأيناه مؤخراً، من تكميم متعمَّد للصحفيين داخل الأراضي الأمريكية نفسها، يدعو للقلق.
في مشهد لا يليق بدولة تدّعي ريادة الحرية، تم إخراج سيناتور أمريكي ديمقراطي بالقوة من مؤتمر صحفي عقدته وزيرة الأمن الداخلي، وذلك فقط لأنه أراد طرح سؤال عن "معسكرات الاحتجاز عند الحدود".
ووفقًا لما أظهرته اللقطات المصوّرة، فقد تم تكبيل يديه وإخراجه من القاعة بطريقة فظة، في رسالة سياسية خطيرة لا للمواطنين فحسب، بل وللصحفيين والإعلاميين على حدٍّ سواء. (*) المصدر: CNN – 12 يونيو 2024
لذا تساءلت حينها: هل هذا هو النموذج الأمريكي الذي طالما قُدّم لنا كمرجع للديمقراطية؟ لقد وجدت في هذا المشهد الغريب دليلاً على أن الصحافة الحرة في أمريكا أصبحت رهينة للحسابات السياسية، كما كانت في جمهوريات الخوف! وأن ما حدث، كما يبدو، ليس سوى غيض من فيض:
معايير مزدوجة: فالدولة التي ترفع شعار حرية التعبير هي نفسها التي تشهد تصاعداً في تقييد الحريات الصحفية.
أساليب جديدة للتكميم: لم تعد الرقابة تقتصر على الدول الاستبدادية، بل تطورت إلى أشكال أكثر تطوراً في الدول الديمقراطية.
تآكل الثقة في الإعلام: نتيجة التواطؤ بين بعض وسائل الإعلام والسلطات السياسية.
أزمة الصحافة: عالمياً... لا محلياً فقط
المفارقة أن الرقابة لم تعد حكرًا على أنظمة "العالم الثالث" كما كنا نتندر، بل أصبحنا نرصد نماذج جديدة من القمع الناعم والخشن معًا في دول كنا نظن أنها حصينة ضد الاستبداد الإعلامي.
"بحسب تقرير مراسلون بلا حدود لعام 2024، تراجعت الولايات المتحدة إلى المركز 45 من أصل 180 دولة في مؤشر حرية الصحافة، خلف دول مثل جامايكا (المركز 12) وناميبيا (المركز 22)، في تراجع يُظهر هشاشة النموذج الأميركي في حماية الصحافة المستقلة.” (*) المصدر: RSF World Press Freedom Index 2024
كما سجّل التقرير ذاته أن "الرقابة الرقمية"، عبر الذكاء الاصطناعي وخوارزميات المنصات الكبرى، باتت تشكل تهديدًا بنيويًا لحرية الإعلام يفوق أحيانًا أجهزة الأمن التقليدية.
ختامًا... أي حرية نريد؟
وهكذا نستطيع أن نقول إن الرقابة لم تختفِ، بل تطورت وتكيفت مع العصر الرقمي. ما نشهده اليوم هو تحول من رقابة "قليلة الدسم" إلى رقابة "ذكية" أكثر خطورة لأنها غير مرئية.
فالسؤال الأخطر ليس: هل نعيش في ظل رقابة؟ بل: أيّ الرقابتين أشد فتكًا؟ تلك التي نراها ونقاومها؟ أم التي تتسلل إلينا عبر الشاشات والخوارزميات دون أن نشعر؟
الحرية الحقيقية لم تعد مجرد غياب للرقابة، بل القدرة على مواجهة كل أشكال التحكم في المعلومات، سواء كانت تقليدية أو رقمية.
أمريكا التي كانت رمزاً للديمقراطية تواجه اليوم اختباراً. وما حدث هناك ليس حادثًا معزولًا، بل ناقوس خطر، يُذكرنا بأن الحرية الإعلامية، كأي قيمة إنسانية، يمكن أن تهتز حتى في أعرق الديمقراطيات، إذا لم يحمِها القانون، ويحترمها الضمير، ويُصِرّ عليها الرأي العام.
ومن يدرينا؟
ربما يُصبح "مقال قليل الدسم" هو العنوان القادم للصحافة العالمية كلها… إذا لم ننتبه.