: آخر تحديث

في شُكر اللصوص

2
1
1

صحيحٌ أنَّ السرقة عمل مدان أخلاقياً على نطاقٍ واسع في العصر الراهن وفي أغلب المجتمعات المتحضرة، كما يُعاقب الفاعل على ما اقترفه قانونياً إذا ما شوهد وهو يسرق أو قُبض عليه أثناء الإغارة على ممتلكات الآخرين، وحتى اللص نفسه إن سمع أحدهم يتحدث عن أفعال لصٍ آخر لرأيته لاشعورياً يشتمه مع الآخرين، بما أن فعل السرقة غدا مداناً على المستوى الاجتماعي في معظم المجتمعات في زمننا هذا، ونادراً ما ترى من يفتخر بفعل السرقة في المجتمع المدني المتجه بخطىً ثابتة نحو التقدم، أما في البيئات المتخلفة التي لم تدخل إليها القوانين والشرائع الحضارية المعاصرة فقد تجد من يفتخر بما اغتنمه واستحوذ عليه بغير وجه حق، وفي تلك البيئة السقيمة قيمياً تكاد تكون السرقة والسلب والنهب نمط حياة وموضعَ تباهٍ وافتخار.

ولكن بالرغم من السمعة القبيحة للسارق والسرقة ففي بعض المواقف قد ترى واحدنا يشكر اللصوص بالرغم من شناعة ما اقترفوه، ولعله من أشجع وأخير اللصوص وأكثرهم إفادةً للجنس البشري هو ما ورد ذكره في الأساطير الإغريقية، وخاصةً بروميثيوس الذي سرق النار من الآلهة في جبل الأوليمب ومنحها للأوادم، وفي هذا الصدد يقول عبدالرحمن أسامة سفر مؤلف كتاب "لصوص النار" إن "سرقة بروميثيوس كانت سرقة نبيلة ذات أثر عظيم على عموم البشر".

وفي إطار الأعمال الخيرية التي قام بها من يوصفون بالأشرار، ففيما مضى كثيراً ما شكر الناس في بلدانٍ ما العصابات التي كانت تسلب الأموال من الأغنياء وتعطيها للمحتاجين والمعدمين، ومنهم على سبيل الذكر وليس الحصر شخصية روبن هود في الفولكلور الإنجليزي، قاطع الطريق واللص الذي كان يقوم عمله الأساس على سلب وسرقة الأغنياء لأجل إطعام الفقراء.

وحاضراً ففي بلادنا التي ما تزال تعيش الفوضى الأمنية قد تجد من يشكر السُّراق في حالات كثيرة ومنها على سبيل المثال: ذلك الذي تكفل بإدارة محلات أو معامل إخوته أو أحد من معارفه، فإن تعرض المعمل للسرقة فهذا سيكون لصالح المتكفل الذي كان في نيته أن يستولي على منتجات المعمل أو وارده ولكنه لم يكن ليقدر على ذلك في ظل الأمن والسلام والاستقرار، لأنه وقتها كانَ مطالباً بتقديم تقارير عن العمل وسير العمل والمنتجات والعائدات والموارد لأصحاب تلك المؤسسات الإنتاجية، بينما الآن فلا أحد يدقِّق في كمية المسروقات وظروفها بما أن السّراق عبَّدوا الدرب للمهيمن الذي راح يشكرهم في سره، وكذلك الأمر من تعرضت الكروم التي يديرها للسرقة فقد يجد فرصة ليضاعف حجم المنهوب حتى يضع ثمنه في جيبه، وهنا لن يحاسب عليه أحد ولن يدقق في حساباته أحد، طالما أن الكل سمع وعرف بأن الكروم تعرضت للسرقة، وهو بدوره سيشكر اللصوص مراراً لأنهم مهدوا له طريق الاستيلاء.

وقد يشكر اللصوص مَن لم يكن قد سرق مِن قبل ولا جرأة له على السرقة أصلاً، ولكن في نيته الاستحواذ على ما لا يخصه، فهو لم يكن حقيقةً نظيف الكف والوجدان إلاَّ أنه كان يخشى من اكتشاف أمره، فهذا الشخص إن غادر منزله أو محله لأسباب أمنية وعاد إليه بعدها بمدة ووجد في طريقه الكثير من المسروقات كالملابس أو الأدوات المنزلية أو المال أو ما كان بقيمة المال إن باعه، وذلك بعد أن كان بعض اللصوص قد استخدموا منزله أو محله كمستودع لجمع المسروقات لكي يبيعوها لاحقاً ولكنهم تعرضوا لغارة في الطريق فأودت بحياتهم، أو أن جهة ما اعتقلتهم عندما رأتهم بالجرم المشهود وهم يسرقون، إذ أن صاحب ذلك البيت أو المحل  طالما كان في نيته التطاول على ما للغير من قبل ولكنه لم يكن يمتلك الجرأة على اقتراف ذلك الذنب فإنه سيشكر السراق بينه وبين نفسه عشرات المرات لأنهم وضعوا بين يديه كل ما كان يتمناه من قبل.

ومن جهتي فكلما زرتُ المكاتب العربية في مدينة إسطنبول التركية واكتويتُ بالأسعار التي تحرق ما في الجيوب خلال دقائق معدودات، كررتُ شكري لقراصنة الكتب الذين استحوذوا على النسخ المطبوعة منها ومن ثم جعلوها كتباً إلكترونية ونشروها على مواقع الإنترنت مجاناً، فأشكرهم بالرغم من مثلبتهم، وذلك الشُكرُ لسببين: أولاً لما وفروه لي من أموال، إذ لو أنني اشتريتُ كل الكتب الإلكترونية كنسخ ورقية لكانت الرواتب بأغلبها صُرفت على شراء الكتب، وأشكرهم على الفعل ذاته مرةً أخرى لأنهم وفروا لي المساحة، لأني لو اقتنيتُ ورقياً جميع الكتب الإلكترونية التي قرأتها أو عدت إليها، أو اطلعت عليها، أو استأنست بها، لما كانت الشقة وسعتني قط مع تلك المكدسات الورقية المطبوعة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.