: آخر تحديث

العدى والاعتداء

0
0
0

لعلّها المرة الأولى التي أكتب وأنا أطارد الكلمات، لأنَّ العاطفة متى كانت في صراع مع العقل، إنّما تكون المعاناة. عاطفة تريد التحرّر، والصراخ بأعلى صوتها، وعقل يطلب التريّث، ويكبّل بالحكمة الثورة والكلم والانفعالات... ولكنّ الواقع يفرض أنْ يُفكَّ العِقال، وتُفرد الراية على وسعها، حتى يتبيّن ما أُلحق بها من أحمر قانٍ، سيق بفعلٍ مزيدٍ من عدا لا بمعنى ركض، بل ما كان المصدر منه «اعتداء».

ما حدث في الأيام الماضية تجاه أبناء المسلمين الموحدين الدروز في سوريا، الذين كانوا ولا يزالون كما قيل فيهم، سيف الإسلام المسلول، في زمن الحرب كما زمن السلم، لا يمكن أنْ يُفهم في سياق الدفاع عن الكرامات الدينية للنبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، إذ إنَّ سلوك الحقد على جماعة الموحدين هو الوحيد الذي يتسرّب من ردّة الفعل، وحجم ردّة الفعل، التي كانت مبنية على «لا بيّنة»؛ والله قال في كتابه الحكيم: «يا أيها الذين آمنوا إنْ جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا أنْ تصيبوا قومًا بجهالةٍ فتصبحوا على ما فعلتم نادمين» (سورة الحجرات، ٦)

و«اللا بيّنة» التي أحاطت الفعل تجاه الموحدين في سوريا، أسقطت عّمن ادّعوا «الإسلام»، ونصرة نبي الإسلام، أسقطت عنهم سلامة الحُكم لثقتهم بفاسق نقل لهم ما مكّنه منهم، وأوقعهم في فخّه. وأسقطت عنهم الإيمان، لأنَّهم لو كانوا مؤمنين لتبيّنوا، وهم أهملوا البيّنة قبل الاندفاع بفعلٍ «جهالة». و«اللا بيّنة» أثبتت على هؤلاء الجهالة، وفعل الجهالة، كتابين سيحملونهما وراء ظهورهم يوم تُنشر الصحائف. وأثبتت عليهم الندم فرض واقع لا محالة، وإنْ كان ندم الدنيا عندهم غير محسوب، أو مأمول، فإنَّ ندمهم يوم الحساب سيكون عالي الصوت كبرقٍ يشقُ الآفاق وقد حفر في أرواحهم في محكمة العادل المنتقم الجبار أخاديد وكهوفًا من ألمٍ ليس له مثيل...

وهم لم يكتفوا بـ«اللا بيّنة» قبل التكبير والكرّ الاعتداء، بل وَزَرُوا وازرة وزر أخرى، والله لا يفعل (فاطر، ١٧-١٨)، ولم ينتهوا وكانوا من المعتدين، والله لا يحبّ المعتدين (البقرة١٩٠)، وادّعوا القتال في سبيل الله، فقاتلوا من لم يقاتلهم، وقاتلوا من لم يكفر بالله، وغدروا وغالوا – بئس ما آتوا إذ خالفوا.

إقرأ أيضاً: العلم ما بين الطالب والمطَالب: لبنان، وكرامة الإنسان

لم يكن الإسلام الذي يحاول البعض إخراج الموحدين من دائرته يومًا موضع إنكار من الموحدين، بل إنَّ المطلع على مذهبهم – ولو بعضه – يدرك أنَّ مذهبهم نابع من فهم يدمج الفلسفة والعلم في تفسير آياته الكريمة وأحكامه. وإنْ كان فهمهم هذا يثير استياء هذا البعض ضدهم، فالمشكلة ليست عند الموحدين، بل عند الذي يريد مخالفة سنّة الله في خلقه الكون، بفرض أحادية وجهة النظر والله قد خلقنا قبائل وشعوبًا لكي نتعارف، مُعليًا من قيمة التقى في الإنسان. وهو لو أراد لجعلنا أمّة واحدة، لا أممًا. ولو أراد عز وجل لجعلنا على فكر واحد، وتفكير واحد، ولما كان أعطانا العقل لنتفكر ونعقل نتأمل وندرك ونختار، ولما كان أقام للحساب يومًا...

ومن حكمة الله أنَّه دلّنا على طريق سنّته بتأمّل مخلوقاته. فالطبيعة مليئة بأنواع الزهور، التي تتشابه بأشياء، وتتمايز بأشياء، وبأنواع الأشجار، والثمار، والطيور، والجوارح... ولو كانت الأحادية على الأرض سننّته، لكن سنّها في خلقه لنتّبعها وقد رأيناها، وأدركناها، وسُقنا أنفسنا على دربها... لكنّه جعل من شعاع الضوء أطيافًا متمايزة، وخلق من الثرى ألوانًا ترتفع عنه أو تتلحّف به، ووصَل بين الأرض والسماء والماء وفصل بينها، ونثر الأبراج في صفحة سوادٍ ثريّاتٍ مضيئةً بأجمل الألوان والأحلام، وأغلق الباب على قديم في النبات والحيوان وكشف عن جديد النقاب، وجبل الإنسان على السؤال...

جَبَل الله الإنسان على السؤال، و الإنسان روّض الإنسان على العمى... فكان الاعتداء وكان العدى...

فهل يمكن لمن أهمل السؤال، نسيه أو تناساه أن يَعقل؟

وهل يمكن لمن لا يتبيّن الحق من الباطل – والبيّنة تستوجب السؤال - قبل إعمال سيفه في رقاب العباد، أن يتبيّن الأبيض من الأسود؟ وأن يقيم العدل؟ وأن يحفظ البلاد؟ وأنْ يؤمّن العباد في أرواحهم وكراماتهم وأرزاقهم؟

ما حدث مع الموحدين في الأيام الأخيرة قد يكون ردة فعل من جماعات «متفلّتة» - وهي الحجة التي يميل الإنسان إلى الأخذ بها، ليتأكد من أنَّ الجاني سيعاقب، وأنَّ الجاهل سيؤخذ بجهالته وينال جزاءه وقصاصه؛ لكنَّ بعض ما قد يختبئ تحت السطح ربما يؤكد على خطورة ما كان، وما قد يقود إليه بالنتيجة. إذ إنَّه، وأمام المتغيّرات التي تشهدها المنطقة، والتي تبدو، بطريقة أو بأخرى، استكمالاً لمشروع الشرق الأوسط الجديد – ولو تعدّلت بعض الخرائط – يبدو ما حصل وكأنَّه دفعٌ للموحدين إلى القبول بما ناهضوه عقودًا إذا لم يكن أكثر، بتثبيت فكرة أنَّ السلطة السورية الجديدة وتوجّهها لن يقبل بالموحدين كمواطنين في هذه الدولة، وأنَّه لا يتقبّلهم، بل يعاديهم ويريد القضاء عليهم - والموحدون قوم لا يعتدون لكنهم لا يقبلون أن يُعتدى عليهم، وردّ الاعتداء عنهم عندهم واجب. الأمر الذي ينقلنا إلى حيثية أخرى قد تكون مختبئة في إحدى الزوايا تحت سطح «الجماعات المتفلّتة».

إقرأ أيضاً: رسالة محبة

وهذه الحيثية ترتبط بما شهدته المنطقة منذ عقود من ممارسات جادت المصطلحات الكثيرة في وصفها، من جهادية إلى نصيرة للإسلام إلى إرهابية إلى غير ذلك؛ مصطلحات – وإن تعددت – إلاَّ أنها ترافقت مع إراقة للدم هنا وهناك، تحت راية الإسلام وقد اتشحت بالسواد، والتي نال الموحدون منها نصيبًا سابقًا.

وهي – أي هذه الممارسات، انطلقت من تطرف إسلامي وتشدد، يرى بعين أحادية وجه الحق، وينكره على الآخرين وعند الآخرين؛ وهذا ما لا يتفق مع الموحدين، الذين، وبطبيعة حياتهم وعقليتهم، لا يغالون، ولا يكفّرون، ولا يحللون الدماء كيفما شاءوا، ولا مكان عندهم للتطرف الديني، وإنْ كانت العصبية هي الغالبة عليهم – سمة عربية أصيلة توارثوها بالأرومة والدم والوجدان.

وعليه، يمكن أن يكون ما حدث استئنافًا لخطة سابقة، أو لحقد دفين على الموحدين الذين، عبر تاريخهم، كُفّروا من قبل بعض علماء المذاهب الإسلامية الأخرى، بالرغم من الفتوى التي أصدرها الأزهر والتي اعترف فيها بأنَّ مذهب التوحيد مذهبًا من المذاهب الإسلامية.

ولكن – كما يبدو – أنَّ كلّ فرقة تظن نفسها «الناجية»، تظن أنها تمتلك الحقيقة الكلية «منفردة»، وأنَّه عليها أن تفرض بالقوة وجهة نظرها. مع أنّه، لا الحقيقة ملك أحد، ولا جوهر الإسلام تمكّن من أنْ يوحّد المذاهب الإسلامية ومعتنقيها على قلب واحد، ويصنع السلام بينهم... ولا يزال العقد تكرُّ حجارته حجرًا تلو الآخر في شتّى أصقاع المعمورة، وعسى أن يجتمع الشمل يا دمشق...

إقرأ أيضاً: متر طول

«ألستِ دمشقُ للإسلام ظئرًا... ومُرضِعةُ الأُبوَّةِ لا تُعقُّ» ولسوريا في دم الموحّدين يدٌ سلفت ودين مُستحقُّ، لذا وقفوا بوجه المستعمر وحافظوا على وحدتها، وكانت الماضي الذي اتصل بالحاضر. ولن يعمدوا اليوم إلى ما يخالف تاريخهم، وثوابتهم، وانتماءهم إلى الأرض والعرب؛ فهم ليسوا قبيل شرٍّ، لكنَّهم قد أُخذوا بما لم يستحقوا... ومع ذلك، هم «ذادةٌ وقُراةُ ضيفٍ، كينبوع الصفا خشنوا ورقّوا، في جبلٍ أشمٍّ كلُّ جهاته شرَفٌ وخلقُ» يحفظون من يحفظهم، يهادنون من يهادنهم، يدافعون عمن يحفظ كرامتهم، ويسترخصون الأنفس إذا ما مسّت، بشعرةٍ، أعراضهم، أرضهم، كراماتهم.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.