جاء ترامب إلى الشرق الأوسط، كما يأتي رجال السيرك، بابتسامةٍ مطَّاطية، وقُبَّعة تعج بالأرانب (السحرية)، لكن موضع العجب ومهرجان الدهشة لم يكن في ظهوره وحده؛ بل في نتائجه؛ فها هي (سوريا)، التي كانت تحت العقوبات الدولية حتى الأمس القريب، وُضعت فجأة على قائمة "الشراكة الواعدة".
جاء ومعه خزائن أسرار؛ هل هذه زيارة استثمار، أم إعادة تموضع، أم رسائل مشفّرة إلى الصين وروسيا وإيران على رقعة شطرنج الخليج؟! كل شيء مُحتمَل في منطقة أصبحت أكثر تقلُّبًا من مزاج (تويتر)!
شهدنا لقاءً علنيًّا مع أحمد الشرع؛ الرئيس السوري، وسمعنا عن رفعٍ غامضٍ للعقوبات الأمريكية التي وقعت عليها، وشممنا رائحة وعودٍ اقتصادية، كما لو كانت البلاد تحتاج فقط قُبلةَ من ترامب؛ لتُبعث من رمادها.
لسنا بحاجة إلى تحليلات معقّدة لفهم ما يجري؛ بل نحتاج إلى ذاكرة لا تُباع ولا تُشترى. فما يحدث ليس إلا إعادة إنتاج لنفس المسرحية: يأتي الغرب، يُربِّت على كتف زعيم، يَرفع عقوبة، يُوقِّع اتفاقية؛ ثم يختفي، تاركًا الشعوب تعيش في وهمٍ كبير!
وما بين زيارة وأخرى، تُنفَق المليارات، وتُكتب التغريدات، وتُرفع الأعلام، وتُلقى الخطبٌ. أما الشعوب، فهي إما تحتفل بما لا تفهمه، أو تحزن على ما لا يمكنها تغييره.
أما العراق، فقصته أغرب: تُعقد قمة عربية على أرضه بحضور وفود تمشي على السجاد الأحمر، وتتناقش عن "الوحدة" و"الأخوَّة"، ثم تنتهي القمة دون أن يُذكر العراق في القمة الخليجية، وكأن (بغداد) هي الخادمة التي تُنظّف البيت ثم تُمنع من الجلوس على مائدة العشاء!
يبقى العراق دائمًا ذلك الابن غير الشرعي في العائلة العربية: يُستدعى عند الكوارث، ويُنسى عند توزيع الثروات! يُراد له أن يكون حيًّا وقت الحروب، وميتًا حين تُوزع (تورتة) الفرح، بلدٌ يمتلك النفط والماء والتاريخ؛ لكنه يُعامل كما تُعامل الكتب القديمة في مكتبة مهجورة.
وفي خضم كل هذه التحركات، والتغريدات، والصفقات، هناك شخصٌ وحيد لم يُسأل عن رأيه، ولا يُنتظر منه أي ردّ فعل: إنه المواطن العربي، هذا الكائن الذي يعيش بين الأمل (المعلّب) واليأس (الطازج)، ينظر إلى التلفاز كمن يُشاهد فيلمًا أجنبيًّا بلا ترجمة، ويُسرُّها في نفسه قائلًا: "لعلها تكون خيرًا..."، ثم يعود إلى طابور الخبز، أو خيم اللاجئين أو إلى أحلام الهجرة.
أما عن شؤون المواطن العراقي، فلها قصةٌ فريدة، لا تُروى إلا على وقْعِ الآهات المكتومة، فقد دفع هذا (المسكين) من جيبه مئات الملايين، لا ليستضيف ضيوف الله؛ بل ضيوف الجغرافيا المُتعَبة.
يُقال إن 12 مليون دولار قد بُذّرت على ملاعق الطعام وحدها في "قمة الخُطب المزركشة"، حيث تُسكب الكلمات في الصحون كما تُوزَّع الهدايا في مواسم الأعياد، مع فارق بسيط: أن الخطابات لا تُكتب هناك، بل تُستخرج من أرشيف المجاملات القديمة، وتُعاد تسخينها على موائد البروتوكول البارد.
ثم يُطلب من المواطن أن يُصفّق إذا كان التصفيق مرادهم، وأن يصمت عندما يأمرونه بالصمت، وأن يبتسم عندما يُهينونه، وأن يضحك أحيانًا، فيما يُمنع من الحديث عن مصيره أو عن شقيقه العاطل، أو عن أمه التي تموت على أبواب المستشفيات وسط حشود الصفقات وملفات الفساد والمؤتمرات المَنسية.
المواطن العراقي يستغرب؛ كيف أن العراق يستضيف القمة العربية، ثم يُحذف اسمه من مذكرة حضور الخليج؟! وكأنها قصة مؤلمة، تمتد عبر ملحمةٍ تُقرأ من اليمين إلى اليسار، وتُبكى من أي اتجاه. وإذا سأل عن زيارة ترامب المفاجئة، قيل له: "لا تتدخل في شؤون الكبار، عليك فقط أن تدفع الفاتورة... وتُحسن الاستقبال!".
مُدهش أن يفاخر رئيس حزب أمام جمهوره، وكأنّ بغداد قد أصبحت مركز العالم، وأن شوارعها ومطاعمها وجسورها ومولاتها وأكلة السمك المسكوف ستذهل القادة العرب. القادة يدركون أن العراق مجرد كريم يوزع المكرمات، فيما دول الخليج توقع مليارات على مشاريع الطاقة المتجددة والصحة والذكاء الاصطناعي. نحن هناك نقدّم السمك، وهم يبنون المستقبل. وكل إنجازاتنا لا تزيد في أعينهم عن مشروع موظف بلدية في الخليج، لا عاصمة دولة.
أما العراق، الذي كان أبو الطيب المتنبي يكتب في مزاياه روائع الشعر، فقد أصبح اليوم مادةً لمؤتمرات تهدف إلى إعادة دمجه في محيطٍ عربي، لا يعترف به إلا عند الحاجة! وطنٌ مأكول إذا أعطى، مذموم إذا اشتكى، حاضرٌ في الولائم، غائبٌ عن القرارات.
هذا العراق الذي علّم العرب كيف تُكتب الجملة الفعلية، صار بحاجة إلى عالمٍ نحْويّ، يشرح لنا موقعه الإعرابيّ في هذه الأمة: هل هو بدل؟ أم حال؟ أم منصوبٌ على النسيان؟!
ما لم يُغلق العراق أبوابه أمام من يريد أن يحكمه أو يوزّع له الأدوار، سيظل خائبًا، مذموماً، مأكولًا، عابراً بين مشاهد المسرحية العبثية في الشرق الأوسط التي لا تنتهي، حيث يظل بطلها الأسير المظلوم بين يدي من لا يعرف الرحمة.
لقد أصبح العراق هو النادلَ المتعب في وليمة العرب: يُقدِّم النفط، ويصبُّ الماء، ويدفع الحساب، ثم يُشكر ببيانٍ ختاميٍّ مائع، يقول له: "أنتَ عمودُ الأُمَّة!".
ادفع الحساب... من فضلك!