: آخر تحديث

ترمب في الخليج.. من السخرية إلى لغة الأرقام

0
0
0

ظهر في أحد مقاطع الفيديو الرئيس الأميركي دونالد ترمب وهو يركض في صالة المطار، يحمل حقائب ضخمة تتطاير منها الدولارات، يتبعه مساعدوه وهم يلهثون للحاق بطائرته الرئاسية، كأنهم يهربون بغنيمة العمر. وفي صورة أخرى، كتب أحد المعلّقين: "ترمب خلّى الخليج ماكينة صرف آلي متنقلة!"، فيما امتلأت مواقع التواصل العربية بعشرات الرسوم الكاريكاتيرية، ومقاطع الفيديو المركّبة، وتعليقات تسخر من قادة الخليج وكأنهم سلّموا خزائن أوطانهم على طبق من ذهب. الحدث الذي يُفترض أن يكون سياسيًا واقتصاديًا ثقيلًا، تحوّل فجأة إلى مهرجان افتراضي ساخر، أُفرغ من مضمونه الجاد، واستُبدلت فيه لغة المصالح بلغة "الميمز". لكن خلف هذه الضجة الرقمية، ثمة واقع مختلف كليًا، واقع يحتاج إلى بعض الصراحة، والكثير من الفهم.

زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى السعودية وقطر والإمارات أثارت موجة من السخرية على مواقع التواصل في عدد من الدول العربية، حيث تم تصوير الزيارة وكأنها عملية "شفط" منظم لثروات الخليج، مع كمّ كبير من الكاريكاتيرات والتعليقات المضحكة والمقاطع المصورة، وكلها تصب في فكرة أن ترمب غادر المنطقة محملًا بعقود بمئات المليارات، بينما بقيت الحكومات الخليجية بلا مقابل. لكن دعونا نكون صريحين ونتناول الأمر من زاوية أكثر واقعية وموضوعية.

في الواقع، ترمب لم يأتِ إلى المنطقة ليجمع تبرعات أو صدقات، بل جاء في زيارة سياسية اقتصادية خالصة، تقوم على منطق المصالح المشتركة: خدمة مقابل مال، جودة مقابل ثقة، واستثمار مقابل شراكة طويلة الأجل. فالصفقات التي أُبرمت خلال هذه الجولة لم تكن مجرد وعود أو نوايا، بل عقود حقيقية وملتزمة في مجالات الدفاع والطيران والطاقة والذكاء الاصطناعي.

في السعودية وحدها، بلغت قيمة الاتفاقيات المعلنة حوالي 600 مليار دولار، شملت صفقات دفاعية ضخمة، وتعاونات استراتيجية في مجالات الطاقة والتكنولوجيا، مما يعكس توجّه المملكة نحو تعزيز قدراتها الصناعية والعسكرية والتنموية. أما قطر، فأعلنت عن صفقات بقيمة 243.5 مليار دولار، من ضمنها صفقة لشراء 210 طائرات بوينغ، وهي أكبر طلبية في تاريخ الشركة، فضلًا عن شراكات في قطاعات البنية التحتية والتكنولوجيا ومحركات الطائرات من جنرال إلكتريك. وفي الإمارات، وصلت قيمة الصفقات الجديدة إلى 200 مليار دولار، إلى جانب تسريع استثمارات سابقة بقيمة 1.4 تريليون دولار في قطاع الذكاء الاصطناعي، وكان من أبرز نتائج الزيارة الإعلان عن بناء مركز بيانات بقدرة 5 ميغاواط في أبو ظبي، وهو الأكبر خارج الولايات المتحدة.

إذاً، نحن لا نتحدث عن صفقات عبثية أو إنفاق بلا مقابل، بل عن دول خليجية تمتلك رؤية واضحة للتنمية، وتبحث عن الشركاء القادرين على تحقيق النتائج بجودة عالية وانضباط دقيق. للأسف، لا تزال كثير من الشركات العربية تتعامل مع الخليج بعقلية "الزبون الدائم" الذي يمكن استنزافه، دون تقديم قيمة حقيقية أو التزام بالمواصفات والمواعيد. وهنا الفارق الكبير. فالشركات الأجنبية، خصوصًا الأميركية، تدرك جيدًا أن سمعتها هي رأسمالها الحقيقي، ولذلك تتعامل باحترافية تامة وتسعى للحفاظ على علاقاتها التعاقدية بكل دقة.

من المضحك أن يتحول النقاش حول زيارة سياسية واقتصادية بهذا الحجم إلى مهرجان من السخرية على المنصات العربية. بعضهم رسم كاريكاتيرات، وبعضهم كتب تعليقات لا تتجاوز مستوى "نكتة واتساب"، وكأننا أمام مشهد هزلي لا أكثر. بينما الحقيقة أن دول الخليج، وعلى رأسها السعودية وقطر والإمارات، تدفع بعجلة التنمية بكل قوة، وتستثمر في المستقبل من خلال شراكات قائمة على الكفاءة والجدوى، لا على العواطف أو الشعارات.

باختصار، لا أحد يفرض على دول الخليج صفقات لا تحتاجها، ولا أحد يغادر حاملًا الأموال في حقيبة دون مقابل. هذه دول تشتري خدمة محترفة مقابل قيمة واضحة، وتسعى لما فيه مصلحة شعوبها. فدعونا نرتقِ بمستوى النقاش قليلًا، ونفهم أن العلاقات الاقتصادية اليوم لا تُدار بالمزايدات، بل بالنتائج.

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.