بكل سخرية مريرة وابتسامة حزينة على وجوهنا المحمّلة بالبيانات، نفتح هذا المقال بسؤال قديم جديد: ما هي المشاعر؟ لا، لسنا في عيادة فرويد، ولا في رواية دوستويفسكي نغوص في أعماق النفس البشرية، بل نحن في حضرة وزارة داخلية المشاعر، تلك الحكومة الظليلة التي لا تنتخب، ولا تُسقط، والتي تحكمنا بأزرار الهواتف الذكية وخوارزميات الإعلانات الموجهة.
أهلاً بكم في جمهورية "الاستلاب العاطفي"، حيث يتم تسليع الحزن، وتعبئة القلق في قناني إعلانية بحجم شاشة هاتف. لا حاجة لدكتاتور، فالمراقبة صارت طوعية. نحن نمنح بياناتنا كما كان الفلاح في العصور الإقطاعية يمنح المحصول لعمدة القرية. الفارق الوحيد أن العمدة هذه المرة يدعى: "ذكاء اصطناعي مدعوم بالإعلانات".
نحن في زمن "رأسمالية المراقبة"، حيث يُراقب كل نبض عاطفي فينا، لا ليُعالج، بل ليُسوّق. فالخوف من الوحدة؟ يساوي إعلاناً لتطبيق مواعدة. الشعور بالفراغ؟ إعلان لمنتجع يوغا في بالي. الحزن؟ إعلان لشوكولاتة داكنة 90 بالمئة تقاوم الاكتئاب – أو هكذا يقول "الإنفلونسر".
يقول ألبير كامو: "أسوأ أنواع العبودية هي تلك التي تُمارس باسم الحرية". وهنا نحن نمارس "حرية الاختيار" في بحر من اللاخيارات، نعتقد أننا نختار، فيما في الحقيقة نُرغَم. الحُلم أصبح حُزمة اشتراك شهري، والرغبة وسمًا قابلًا للشراء.
أصبحنا كائنات مشوشة، مشدودة بين نداءات "اخرج من منطقة الراحة" وإعلانات "ابقَ على الأريكة مع البث التلقائي". إنهم يخبروننا أن "الراحة فخ"، بينما يبيعون لنا أسرّة ذكية ومقاعد تدليك ذكية وثلاجات ذكية لأننا، على ما يبدو، لم نعد نملك ذكاءً كافيًا.
إنها لعبة قاسية، لعبة تُرينا الحزن كعيب قابل للإصلاح بتحديث نظام التشغيل. لكن ما لا يقولونه هو أن هذه التحديثات تأتي دائمًا محمّلة بالمزيد من التبعية، المزيد من الاستسلام، المزيد من "الصمت الطوعي"، كما سماه هربرت ماركوز.
في زمن السرعة، حيث كل شيء يجب أن يكون فورياً، حتى الإشباع العاطفي، أصبحت الرغبة مزحة كئيبة. كما يقول جيمس ويليامز: "الانحرافات قصيرة المدى لا تمنعنا فقط من فعل ما نريد، بل تمنعنا من الرغبة في ما نريد أن نرغب فيه".
كل نقرة على الشاشة تُعمق أزمة الرغبة لدينا. كل إشعار هو تذكير بأننا لم نعد نملك حرية الانتباه. لقد تحولنا من كائنات راغبة إلى كائنات "مُستهدَفة"، ومن ذوات واعية إلى "شخصيات مستخدم" في سجل بيانات كبير يديره مهندس لم يرَ وجهك يوماً، لكنه يعرف متى ستبكي على الأرجح.
في هذا المسرح الرقمي الكبير، قُتلت العلوم الإنسانية تحت لافتة "التعليم الوظيفي"، وتم استبدال سؤال "لماذا؟" بسؤال "كم؟" و"بأي سرعة؟". هكذا، نُربّى لا لنفكر، بل لنستهلك. المعرفة تحوّلت إلى مجرد وسيلة لزيادة الدخل، لا لتحرير الذات.
العلوم الإنسانية تنقلنا من أن نكون عبيدًا إلى مشرّعين لحريتنا. ولكن في مدارس اليوم، يبدو أن الفلسفة تُدرس بنفس حماسة تدريس قواعد المرور، وكأن الهدف الوحيد من العقل هو أن لا نُدهس فكريًا.
تمت سرقة الهشاشة وتحويلها إلى أداة تطبيع، فبدلاً من أن تُصبح علامة على الإنسانية، أصبحت شماعة للانهزام: "هذا هو العالم"، "هكذا تسير الأمور". لم نعد نطالب، بل نتنفس الصعداء لأن المأساة على الأقل رقمية ويمكن إغلاقها بزر.
إذًا، هل هناك مخرج؟ نعم، ولكنه لا يُباع في متجر التطبيقات. إنه يبدأ بالسؤال: "هل أنا حقاً أريد ما أريده؟ أم أنني مجرد صدى لرغبات صُمّمت في وادي السيليكون؟" يبدأ بالخروج من حلقة "الرغبة اللحظية"، وإعادة تعريف معنى السعادة، لا على شكل نقاط في تطبيق، بل كعلاقة بين الذات والعالم.
تقول حنة أرندت: "التفكير هو الحديث مع الذات". فلنعد للحديث. لنعد للقراءة، للتساؤل، للكتابة، للجلوس في صمت دون إشعار، للنظر في وجه الآخر دون خوف من فقدان شبكة الإنترنت. فلنعد للبطء. نعم، البطء، هذا الفعل الثوري في زمن الهوس الإنتاجي.
ربما لا نملك رفاهية الخيار بعد. فبينما تبيعنا حكومة المشاعر "الرفاهية العاطفية" على أقساط، وتبيعنا الحزن المغلف بموسيقى رومانسية وألوان الباستيل، لا نملك سوى أن نسخر. لأن السخرية، كما يقول ميلان كونديرا، هي درع الإنسان الأخير ضد الابتذال.
وهكذا، نكتب هذه الكلمات لا لنقنع أحداً، بل لنمارس طقس المقاومة الأخير: أن نفكر، أن نضحك، أن نحزن بكرامة. لا لأننا نريد أن نكون سعداء، بل لأننا نريد أن نكون... أحياء.