: آخر تحديث

حين يتكلم العراق

1
0
1

حين يتكلم العراق، لا يكون صوته مجرد رجع صدى لتاريخٍ مدفونٍ في المتاحف، بل نهوضٌ حيٌّ لهيبةٍ أراد لها الآخرون أن تُنسى، وإشارةٌ واضحة إلى أن هذا الوطن لا يموت في صمته، بل يولد في كلمته. في زمنٍ تتصارع فيه الدول على السماء والماء والثرى، تنبثق سيادةٌ رابعة لا تُرى، لكنها الأقوى: إنها سيادة الفضاء، وصوت الإعلام، وسطوة المعنى حين يُنطق بصدق.

الصحافة هنا لا تأتي باعتبارها سلطة رابعة كما عرّفوها، بل كسيادة أولى، تمهّد الطريق لبقية السلطات لتتوازن. هي ذاكرة الأمة حين تنسى، وعينها حين تُصاب بالرمد. لا تحكم الصحافة، لكنها تُمهّد للحكم الرشيد. لا تصرخ، لكنها توقظ، ولا تُغني، لكنها تُفكّر. هي المساحة التي يُعاد فيها ترتيب العلاقة بين المواطن والدولة، بين الحقيقة والدعاية، بين الوطن كحلم، والسلطة كواقع.

العراق، وهو يُعيد بناء صورته في وجدان العرب والعالم، لم يفعل ذلك بخطب المناسبات، بل بالكلمة التي استعادت وزنها، وبالوعي الذي عاد يطرق الأبواب بلا استئذان. لقد اختار أن يكون جامعاً للعرب ، كموقف حيّ. في قمة بغداد، كان يُعيد ترتيب ذائقة الأمة السياسية على نار هادئة. بدا كما لو أنه طباخ ماهر من زمن الحكمة، يخلط المكونات بحذر، ويتذوّق الفكرة قبل أن يقدّمها، كي لا يُقدَّم للضيوف سوى ما يليق بالمائدة التي دعاهم إليها.،كان طباخاً ماهراً يُعيد تشكيل الطبق السياسي بما يناسب الذائقة الجماعية للأمة.

فما قيمة النهوض إن لم يسنده وعيٌ نافذ؟ وما جدوى الحضور إن خلا من صوتٍ مدوٍّ يحمل المعنى ويُحدث الأثر؟ إن شرط الوجود الحقيقي لا يكتمل إلا حين يتكامل الفعل مع الإدراك، والحضور مع الرسالة. ومن هنا، يغدو الإعلام الساتر الأول والخندق الأخير، لا كزينة للحدث، بل كأداة وعي، تُبلور الموقف وتوسّع صداه. لا لأنّه يروّج، بل لأنّه يُحصّن. فالقوة الناعمة، حين تُحسن إدارة صورتها، تمنع الاختراق من دون طلقة واحدة. ومتى ما امتلك العراق إعلاماً يُشبه ضميره، لا أهواءه، فإنه سيكون قادراً على الانتقال من دولة تُوصف، إلى دولة تُحترم، ومن بلد يُذكَر، إلى بلد يُستشار.

نحن لا نعيش في عالم الحقائق وحدها، بل في عالم الصور، والانطباعات، والسرديات المتصارعة. ومن لا يملك قصته، يُروى عنه ما يشاء الآخرون. ولهذا، فإن المعركة على الشاشة، في الميكروفون، في عنوان الجريدة، لا تقلّ أهمية عن أي معركة حدودية. سيادة الفضاء ليست ترفاً، بل واجب وطني.

لقد فهمت الدول الكبرى مبكراً أن من يملك الكاميرا، يملك الرواية. ومن يتحكم بالمصطلحات، يتحكم بالعقول. أما العراق، فحين يتكلم، يجب أن يُقال عنه ما يُشبهه، لا ما يُراد له. يجب أن يظهر كدولة توازن، لا دولة محاور، كصوت ينهض لا ليعلو فوق أحد، بل ليمنع الآخرين من الدوس عليه.

ولأننا نؤمن بأن الكلمات تصنع الأوطان، فإن الصحافة في هذا السياق ليست مهنة، بل مسؤولية وطنية. الصحفي الذي يسأل يفتح نافذة في الجدار، لا ليهدمه، بل ليعبر منه النور. والإعلام الذي يوقظ الوعي، لا يبحث عن خصومة، بل يسعى إلى شراكة في بناء الحقيقة. فليست مهمة الصحافة أن تُصفّق، ولا أن تعارض من أجل المعارضة، بل أن تُشير إلى الخطأ كي يُصحَّح، وتُضيء مواضع الصواب كي تُحتذى

حين تُقيّد مساحة التعبير، لا يخفت صوت الصحفي وحده، بل تضيع فرصة السؤال الذي يحتاجه الجميع لبناء رؤية أصفى. فالصمت حين يُفرض لا يصنع طمأنينة، بل يترك فراغاً قد يملؤه الالتباس. أما حين تُمنح الصحافة دورها كضمير حيّ، فإنها تُسهم في ترميم المعنى حين يتشظى، وتمسك بخيط الوضوح وسط تشابك الخطابات، وتساعد على إعادة ترتيب الأولويات حين تزدحم الساحة بالتفاصيل المتداخلة

في ظل الفوضى الرقمية، حيث كل هاتف منبر، وكل منشور تصريح، تضيع الحقيقة بين الضجيج، ويُصبح الخبر صدى لرغبة، لا انعكاساً لواقع. عندئذٍ، لا تعود المعلومة قيمة، بل تصبح سلاحاً في يد من لا يجيد سوى الطعن من الخلف.

لكن العراق، وهو يعيد ترتيب بيته الداخلي ويوازن بين ذاكرته وطموحه، يحتاج إلى إعلام يلامس الجوهر لا المظاهر، ويشتغل على تعميق الفهم لا تلميع الصور. هو بحاجة إلى صحافة تظل وفية لقيمتها، حاضرة بقلمها لا بثمنها، قريبة من الناس لا فوقهم، صوتها هادئ لكنه حاضر، لا يسعى للضجيج ولا يعرف الصمت حين يكون الكلام واجباً.

نحن نعيش لحظة عراقية نادرة: لحظة استعادة. استعادة لمكانة، لصوت، لصورة، لهيبة. لحظة يتكلم فيها العراق، لا بلغة الماضي، بل بلغة القدرة على التنميةوالبناء ، والإمساك بميزان المصالح دون التفريط بالثوابت. لحظة تقول فيها بغداد: نحن هنا، لا لنعيد المجد فحسب، بل لنصنع الحاضر بكرامة.

لا يمكن لدولة أن تصنع مهابتها ما لم تملك هيبة الكلمة. ولا يمكن لشعب أن يستعيد كرامته، ما لم يكن له منبر يحميه من كذب المتحدثين باسمه. فالإعلام هو الجسر الذي نعبر عليه من التبعية إلى السيادة، من التردّد إلى المبادرة، ومن الظل إلى الضوء.

وحين يتكلم العراق، فلنصمت نحن، ولنُصغِ. لأن ما يُقال باسمه، ليس مجرد رأي، بل مرآةٌ لما يمكن أن نكون عليه... لو صدقنا.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.