لا أحد ينافس أحداً في هذا الشرق الذي امتلأ بالحرائق والخيبات، لكن هناك من يحاول أن يُقزم المبادرات ويُطفئ جذوة الأمل كلما أطلّت. هذا هو حال البعض مع قمة بغداد، وكأنها رفاه سياسي لا يليق ببلد يئنّ من أعبائه. ينظرون إليها كترف، لا كفرصة، ويحسبون تكلفتها بالأرقام لا بالمعاني، ويستكثرون على العراق أن يُجمع باسمه العرب، بعد أن ظل سنوات طويلة يعاني من فراغ المقعد وغياب الحضور.
في الرياض، اجتمع قادة الخليج على وقع زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب. قمة أرادتها السعودية محطة نفوذ ورسائل صلبة إلى إيران، وصفقات أمن وطاقة، واستعراضاً للدور القيادي. لا بأس، فالسعودية تملك أوراقها، وتدير مصالحها بحسابات تخصها، وتستضيف حليفها الاستراتيجي بمرونة يعرفها الجميع. لكن هذا لا ينتقص من مسار بغداد، ولا يُقلل من أهمية اجتماع العرب في حضن الرافدين.
قمة الرياض شيء، وقمة بغداد شيء آخر. الأولى حدثت ومرّت بترتيباتها، والثانية على وشك أن تنعقد، وتواجه منذ الآن حملة تشكيك داخلية منظمة، تشنها أطراف تعرف أن نجاح القمة في بغداد سيكون فشلاً لخطابها. لذلك، تحرّك بعضهم باكراً لخلق ضوضاء، من قصة خور عبدالله إلى التلويح بالاعتراض على الحضور السوري، وكأن المطلوب من العراق أن يرضي مزاج المعترضين لا أن يلتزم مقتضيات الدولة.
قمة بغداد ليست مناورة سياسية، ولا منصة لتبادل الولاءات. إنها محاولة حقيقية لاستعادة العراق لموقعه العربي، ليست بوصفه تابعاً، بل شريكاً في صياغة القرار. ومن هنا، فإنَّ الحملة الشعواء ضدها لا تُهاجم الحكومة وحدها، بل تسيء إلى هيبة الدولة، وإلى صورة العراق في عيون من يستعدون للحضور. كيف نطلب احترام العالم لنا، ونحن نكيل الإساءات إلى أنفسنا من على المنابر والبرامج؟ كيف ننتظر تضامن العرب معنا، ونحن نُعلن أمامهم أننا عاجزون عن ضبط خلافاتنا ولو لأيام معدودة؟
ما نعيشه اليوم ليس مجرد لحظة سياسية، بل اختبار وطني: هل نريد عراقاً يُدار بعقلية الدولة، أم نبقيه رهينة المزاجات، والخطابات الموقوتة، وصفحات التواصل الاجتماعي التي لا تبني بل تُحرّض، ولا تنقد بل تُمزّق؟ لا أحد يُنكر حق الناس في التساؤل، ولا واجب المعترضين في التعبير، ولكن حين يتحوّل الصوت المعترض إلى تشويه، والخلاف إلى تخوين، تصبح المسألة أبعد من السياسة، وتدخل في باب النكايات والانقسامات التي لا يليق أن نعرضها على ضيوفنا.
من يُرد أن يُعارض الحكومة فليحتفظ بأدواته، لكن ليراجع توقيته. فما يُبنى من علاقات في القمم لا يُقاس بالموازنات، بل بالرمزية والرسائل والثقة. نجاح بغداد في جمع العرب ليس نجاحًا لحزب أو تيار، بل للدولة، ولهوية العراق، ولقدرته على لعب دوره من جديد. وهذا ما يُفترض أن نحرص عليه جميعاً، حتى أولئك الذين يختلفون مع الحكومة.
نعم، قمة الرياض كانت مليئة بالخطابات النارية ضد إيران، والتلويح بالاتفاقات، والضغوط الأميركية المتصاعدة. لكن بغداد لا تدخل في هذا السوق. هي تريد أن تكون ساحة للحوار لا للمحاور، وأن تعيد بناء الجسور لا أن تصطفّ في الحروب. هي لا تستعرض، بل تستقبل، ولا تفاوض على السيادة، بل تدعو إلى العقل.
أما أولئك الذين يتوقفون عند ما يُقال على مواقع التواصل الاجتماعي، ويتخذونه حُكماً، فعليهم أن يدركوا أن الدول لا تُدار بالتغريدات. آراء الناس متقلبة، والمزاج العام قد يُستفز بسهولة، لكن القرار الرشيد لا يصدر من ضغط المؤثرين، بل من مصلحة البلاد العليا. والبلاد بحاجة إلى ما هو أعمق من الصراخ: بحاجة إلى رؤية، إلى صبر، إلى مشروع.
لا بأس أن نختلف، لكن لنُجمد الخلاف مؤقتاً إكراماً للعراق. لنصمت قليلًا أمام العالم، ليرى فينا صورة متزنة لا مرآة مكسورة. من يعتقد أن القمم لا فائدة منها، فليتذكر أن السياسة تبدأ بالإشارات. وأن كل لقاء يُعيد ترتيب الثقة، ويمنح العراق موقعاً، وصوتاً، وصورة.
بغداد لا تزاحم أحداً، ولكنها لا تقبل أن تُحاصَر بتشكيكٍ داخليّ وهي تستعد لمدّ يدها إلى الأشقاء. فليكن ما نختلف عليه مؤجلاً، ولنمضِ مع الدولة، لا ضدها، لأن لا صوت يعلو الآن... على بغداد.