: آخر تحديث
الرؤية بين الغياب والامتلاك:

من غواية اللحظة إلى عقلانية المصير

11
10
7

ليست الرؤية الواثقة ترفاً فكرياً، ولا حالة تجريدية ينشدها نخبة معينة فقط، بل هي فعل وجودي، وأداة حياة، وإطار عقلاني يقي الإنسان من أن يكون رهين لحظة طارئة أو نزوة عاطفية متقلبة. فالرؤية هي عين العقل التي تبصر ما وراء الحاضر، وهي البوصلة التي تمنح الاتجاه حين تعصف الرياح، وتتشابك المسارات.

في حالتنا البشرية، هناك من يمتلك الرؤية، فتغدو له دليلاً وحارساً، وهناك من يفتقدها، فيمضي مبهوراً ببريق اللحظة، متأرجحاً بين ردات الفعل وتقلّبات الشعور. الفرق بين الطرفين ليس في الذكاء المجرد، بل في نوعية النظر، وعمق الفهم، ووضوح المسار. من يملك الرؤية لا يحيا يومه فقط، بل يعيش مستقبله قبل أن يصل إليه، بينما من يفتقدها يظلّ أسير الساعة، يتفاعل دون اتساق، ويخطئ التقدير في محطات حاسمة.

الرؤية ليست مجرد إحساس داخلي أو حدس طيب، بل هي بناء ذهني قائم على وعي بالواقع، واستشراف للمآلات، وربط محكم بين المقدمات والنتائج. إنها مشروع استراتيجي يبدأ من معرفة الذات والمحيط، ويعتمد على استبصار اللحظة من دون الذوبان فيها، فبين قراءة الواقع والتماهي معه شعرة رفيعة لا يدركها إلا من تمرّن على التفكير العميق، بعيداً عن سطوة الانفعال.

من يتخذ قراراته بوحي من البارومتر العاطفي، يفقد التوازن، ويقع فريسة لخيارات آنية قد تبدو مريحة في الظاهر، لكنها تفضي إلى مأزق طويل المدى. فالانفعال اللحظي، مهما بدت أسبابه منطقية، ليس أرضاً صلبة للبناء. في المقابل، من يحتكم إلى الرؤية، يرصد التغيّرات، يقيّم المعطيات، ويصوغ موقفه وفق منظور بعيد، لا تهزه العواطف، ولا يغريه الانحياز العابر.

إقرأ أيضاً: دمشق: ممنوع التنفس!

إن عديم الرؤية يصدر قرارات متخبطة مترددة، غالباً ما تكون نتيجة شعور بالضياع والتردد، ويتشكك في رؤى الآخرين، غير مدرك أن التشكيك أحياناً يعكس فقدانه الداخلي للثقة. هو يعاني من عدم وضوح الهدف، ما يجعله يتخبط بين خيارات متعددة لا تؤدي إلى استقرار أو تقدم، بل تُسهم في تفاقم الموقف، وتزيد من الإرباك. بينما من يمتلك رؤية واضحة، يثق في مواقفه وفي المخرجات التي يبتغيها، ولا يخشى الاستماع إلى آراء الآخرين التي تتكامل مع رؤيته، بل يفصل بين النقد البناء والارتياب العقيم.

صحيح أن قراءة اللحظة أمر لا غنى عنه، لكن القراءة وحدها لا تكفي إن لم تتكئ على استراتيجية شاملة. الاستراتيجية هي النظام الذي يربط بين الحاضر والمستقبل، بين الخطوة الأولى والغاية النهائية. هي الخريطة التي تحمي من التيه، وتمنح صاحب الرؤية القدرة على الثبات حين تفقد الوقائع معناها أو تتكثّف ضغوطها. فإنه من دون استراتيجية، تصبح الرؤية أقرب إلى حلم يقظة؛ ومعها، تغدو الرؤية مشروعاً قابلاً للتحقق.

الرؤية الحقيقية تتيح للمرء أن يختار خياراته بناء على ما يجب أن يكون، لا على ما يفرضه المزاج أو الظرف. ولذلك، فالمعيار الأخلاقي والعقلي لكل قرار يجب أن يُستمد من وضوح الرؤية، لا من توتر اللحظة أو انجراف الجموع. اللحظة قد تكون مثقلة بالمفاجآت والانفعالات، لكنها ليست المرجع، وإنما معبر يحتاج إلى حذر في العبور.

إقرأ أيضاً: ليس دفاعاً عن الشيخ الهجري: حين تستنجد الطائفة بأخلاقيات الدولة المهدورة

ومن هنا، فإن الفرق الجوهري بين الفعل المرتجل والفعل المؤسس يكمن في امتلاك الرؤية. من يُبصر الهدف، يعرف كيف يخطو. أما من يسير دون مقصد واضح، فكل طريق تبدو له ممكنة، وكل منعطف قد يغريه، ثم يفاجأ بأنه عالق في مكان لم يختره، أو أنه بات جزءاً من مسار لا يشبهه.

إن من يمتلك الرؤية لا يطلب التصفيق اللحظي، ولا يستجيب لدعوات المديح الفوري، بل يتحمّل عناء الصبر، ويتقبّل العزلة أحياناً، لأنه يسير وفق مسار لا يراه كثيرون بعد. أما من يفتقدها، فسرعان ما يتقلب مع المزاج العام، ويفقد مصداقيته مع مرور الوقت، لأنه لم ينطلق من قناعة ثابتة ولا من أفق واسع.

ولذلك، فإن القيادة الفعّالة، والنجاح طويل المدى، وتحقيق الأثر الإيجابي المستدام، كلها تبدأ من امتلاك رؤية واضحة، مدعومة باستراتيجية صلبة، متفاعلة مع اللحظة دون أن تغرق في مستنقعها. فمن أراد التقدّم، لا يكفيه أن يرى خطواته، بل لا بد أن يعرف إلى أين تمضي تلك الخطوات، وما الثمن، وما الغاية، وما القيمة.

إقرأ أيضاً: الدروز واستهداف الكيان: فتنة المذهبة ومسؤولية الدولة المتخيلة

الرؤية ليست ترفاً للمتفلسفين، بل هي ضرورة لكل إنسان يريد أن يحيا حياة ذات معنى، مهما كان موقعه أو مجاله أو طموحه. من يمتلكها، يحيا بثبات داخلي، ويفهم ذاته والعالم، ويعرف متى يتوقف، ومتى يتقدم، ومتى يعيد النظر دون أن يهتز.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.