وصل بالأمس فخامة الرئيس الأميركي دونالد ترامب مدينة الرياض في زيارته الخارجية الأولى عقب تنصيبه رئيساً للولايات المتحدة الأميركية لفترته الثانية، حيث كان في استقباله سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، ثم جرت مراسم الاستقبال الرسمية التي لطالما عكست الإرث الثقافي والسياسي التاريخي للمملكة العربية السعودية في قصر اليمامة، وتبادل عدد من المسؤولين الرسميين من الجانبين السعودي والأميركي السلام على سمو ولي العهد والرئيس الأميركي. بالإضافة إلى حضور عدد كبير من رؤساء الشركات العملاقة الأميركية والسعودية، ثم جرت بعد ذلك المحادثات الرسمية التي أسفرت عن عدد من الاتفاقيات الاستراتيجية ومذكرات التفاهم بين عدد من الوزارات بين البلدين تضمنت التطوير الدفاعي والتسليح والطاقة والمعادن وغيرها من الاتفاقيات المهمة التي تعكس رغبة البلدين في التقدم والنمو وتطور الشراكة الاستراتيجية التاريخية بينهما.
تأتي زيارة الرئيس الأميركي للرياض كأول محطة له تأكيداً لأهمية المملكة العربية السعودية السياسية والاقتصادية ودورها الريادي في المحاولات الدائمة لإنهاء الصراعات وتغليب الحكمة السياسية في العديد من الملفات الإقليمية والدولية، وتطورها كفاعل دولي مهم ومركز جاذب للاستثمارات الأجنبية وملجأ لعقد مباحثات السلام بين الدول. إضافة إلى العلاقة التاريخية الراسخة بين البلدين المستمرة منذ أكثر من ثمانية عقود.
ومن الأمور المهمة التي نتجت عن هذه الزيارة التاريخية إعلان الرئيس ترامب عن رفع العقوبات عن سوريا بعد طلب الأمير محمد بن سلمان، الرجل العظيم كما وصفه ترامب وكما يراه المواطنون، الذي يسعى دائماً إلى ما فيه خير للدول العربية الشقيقة، ومواقفه الراسخة ودعمه لجميع القضايا العربية وعلى رأسها القضية الفلسطينية.
لا شك أنَّ منطقة الشرق الأوسط تمر بتحولات وحقبة جديدة تميل للتوازن الإقليمي، التي يكون أساسها العقلانية السياسية والعمل على منع تفاقم الصراعات واللجوء إلى التهدئة، وبذل الجهود لحل وتسوية الملفات الإقليمية المشتركة.
ومن السمات الرئيسية لحالة التوازن هي الاحترام المتبادل بين الدول المتجاورة، حيث تعكس حالة الاحترام المتبادل مدى المقدرات العسكرية والاقتصادية المتوازنة بين الدول، ولكن في ظل مسألة التسلح النووي، الذي تسيد الموقف حيث حل الردع النووي الذي ساد بين الدول النووية بعد الحرب العالمية الثانية وحتى وقتنا الحالي محل الردع التقليدي العسكري، لم تعد مسألة التفوق العسكري أو الاقتصادي ذات أهمية كبرى بقدر أهمية الردع النووي في وقتنا الحالي. حيث من الممكن لدولة ذات قوة عسكرية واقتصادية هائلة أن تحسب ألف حساب لدولة لا تقارن بها لا بحجم الجيش والعتاد ولا بالقوة الاقتصادية، ولكنها نووية!
وبالأخذ في عين الاعتبار إمكانية انضمام المملكة العربية السعودية وإيران إلى جانب إسرائيل للنادي النووي، فهذا من شأنه أن يحدث توازناً إقليمياً في ضوء ما ذكرت من أهمية السلاح النووي كأداة ردع أولى للدول النووية. ومن المهم لدولتنا التي تعد عاملاً إقليمياً حاسماً أن تمتلك التقنية النووية التي تتيح لها وقت ما تشاء امتلاك السلاح النووي كأداة ردع، وهذا ما قد يحدث في ظل زيارة الرئيس ترامب التاريخية والتعاون والاتفاقيات في مجال الطاقة التي قد تتيح للمملكة امتلاك التقنية النووية.
ولكنَّ مسألة عدد الدول النووية ليست أمراً ثابتاً، وقد تتقلص أو تزاد مستقبلاً، على سبيل المثال المباحثات الجارية في الفترة الحالية بين إيران والولايات المتحدة بخصوص مسألة التخصيب، وإصرار أميركا على عدم السماح لإيران بامتلاك السلاح النووي، بعد أن تراجع دور إيران في المنطقة وتقلص عدد وكالات الميليشيا التابعة لها خصوصاً في سوريا ولبنان، وعدم إمكانيتها إعادة التموضع واستمرار الدعم في هذا الشأن، أصبحت تصر على ورقتها الرابحة الأخيرة في حق التخصيب الذي يتيح لها في مراحله المتقدمة امتلاك السلاح النووي، وتواجه هذه الرغبة الرفض من الجانب الأميركي، وسوف نرى إلى أين ستفضي هذه المحادثات.
إنَّ تعدد القطبية المتوازن قد يخلق حالة طويلة نسبياً من الاستقرار، مثلما ساد في فترات سابقة في القرن التاسع عشر وحتى الحرب العالمية الثانية، ولو أنه أقل استقراراً عن غيره من الأنظمة مثل ثنائي النسق، إلا أن المعطيات الحالية اختلفت تماماً في عصرنا الحالي، حيث حالة التعددية القطبية عن طريق السلاح النووي قد فرضت نفسها بالفعل بين الدول النووية! فهل تستطيع أو تجرؤ دولة عظمى نووية أن تشن حرباً على أضعف دولة نووية بغض النظر عن ماهية الأسباب؟ بالطبع ليس بالأمر السهل، وخاصة أنه ليس لديها يقين باحتمالية الرد عن طريق السلاح النووي من الدولة الأخرى. قد أكون أقحمت التعددية القطبية في غير موضعها المعتاد في أدبيات العلاقات الدولية، والتي تخص بنية النظام الدولي ككل، ونسبة التوازن بين القوى العالمية والأكثر نفوذاً في العالم. ولكن يمكن قياسها بطريقة أخرى إقليمية، خاصة وأنها سادت لعقود بين دول متجاورة وإقليمية بالفعل في أوروبا.
ختاماً، أصبحنا بالفعل أمام حقبة جديدة في الشرق الأوسط تقودها قوة المملكة العربية السعودية وريادتها في كافة المجالات بقيادتها الرشيدة ومواطنيها الأكفاء، ورغبتها في استمرار النمو والازدهار وعدم الانخراط في الصراعات وتغليب الحكمة السياسية في سياستها الخارجية، وعلى الدول المعنية بالتوازن الإقليمي أن تعي ذلك وتلجأ للعقلانية والحوار لا للتعنت والمناورة، فذلك يصب في صالح الجميع ولصالح المنطقة بأكملها.