: آخر تحديث

وداعًا أيها السلاح... أم وداعًا أيها الحلم؟

1
1
1

عندما كتب أرنست همنغواي روايته الشهيرة "وداعًا أيها السلاح"، لم يكن يودع البنادق وحدها، بل كان يودع فكرة الحرب نفسها: جنونها، عبثيتها، انهيار المعنى الإنساني فيها. كانت الرواية صرخة مريرة ضد تمجيد الموت، وضد أولئك الذين يحوّلون الألم إلى شعارات صلبة، لا تعرف الرحمة. إذ لم تكن الحرب، يوماً، سوى تجسيد لانهيار الفكرة، وعجز الإنسانية عن اجتراح العدالة. كل رصاصة أُطلقت، وكل جسد سقط، كان نتيجة خيانة كبرى للعقل، للقيم، للمستقبل.

ها هو حزب العمال الكردستاني، وبعد مسيرة دموية امتدت لعقود، يعلن، في مؤتمره الأخير المنعقد بين الخامس والسابع من أيار (مايو)، وقفًا مشروطًا ودقيقًا لما يشبه الوداع الرمزي للسلاح. لم يكن الإعلان مجرد إجراء سياسي، بل يمكن النظر إليه كعلامة مفصلية تنبع من إحساس عميق بتغيّر الزمن، واستحقاق التاريخ.

لكن، هل الحرب التي تُركت خلفه كانت خيارًا أصلاً؟

هل اختار الكردي البنادق، أم اختارتهُ الجغرافيا الممزقة والمصالح الدولية التي جعلت من الكرد مادة خامًا لخرائط مرسومة بالحبر السري على موائد استعمارية منذ اتفاقية سايكس - بيكو وحتى اليوم؟

حين تمّ تقسيم كردستان، لم يُسأل شعبها، لم يُستفتَ، لم يُمنح حق تقرير مصيره، بل تمّ اقتطاعه وتوزيعه كغنيمة حرب بين دول الناشئة حديثًا على جثث الإمبراطوريات.

إذا كانت دعوة السيد عبد الله أوجلان المتكررة - فك الله أسره - رغم العزلة القاسية، تتجه صوب السلام، فإنها تكتسب قوتها من صدى الظلم المستمر لا من ضعف، ومن إدراك عميق بأن الحرب لا تصنع حلاً دائمًا، بل تُطيل المأساة. غير أن هذه الدعوة لا يمكن أن تكون طريقاً باتجاه واحد. إذ لا يُمكن للسلام أن يولد في بيئة لا يزال فيها الإنكار هو الدستور غير المعلن.

فهل تمتلك أنقرة الشجاعة السياسية للاعتراف بالشعب الكردي كشريك لا كتهديد؟

هل ستتوقف عن التعامل مع الكرد من منظور أمني، وتنتقل إلى مقاربة تقوم على العدالة، التمثيل، الاعتراف، والتصالح التاريخي؟

وفي الأجزاء الأخرى من كردستان، يبدو أن الحرب لم تنتهِ، حتى وإن تغيّرت أشكالها.

في روج آفا كردستان، تُواجه التجربة الناشئة خطر الاجتثاث، ليس فقط عبر التهديدات التركية المتكررة، بل أيضًا من خلال الحصار والعزلة ومحاولات العزل الجغرافي والديمغرافي.

في روجهلات، تواصل الدولة الإيرانية حملاتها القديمة الجديدة لتذويب الهوية وملاحقة كل نبض كردي خارج منظومتها الأيديولوجية.

أما في باشور كردستان، فالاستقرار لا يزال هشًا، رهن التحالفات الإقليمية والعداوات المزمنة التي تطل برأسها من العواصم المجاورة.

فهل تكون هذه المبادرة نهاية لمسار الدم، أم مجرد استراحة قبل عودة أخرى للسلاح؟

هل سيتحرّر الوعي السياسي الكردي من التبعية الأيديولوجية ليؤسس لخطاب قومي جامع، يُخرج القضية من العباءة الممزقة إلى رحاب التمثيل الحقيقي؟

وهل تنتهي حالة التنازع بين "المركز" و"الهامش" الكرديين، بين مشروع يعتبر نفسه احتكارًا للرؤية، ومشاريع أخرى تبحث عن نفسٍ مستقل لا يتحقق إلا عبر التعدد والاحترام المتبادل؟

ماذا عن فروع حزب العمال في الأجزاء الأخرى؟

هل ستبقى مرتبطة بأجندة مركزية تتجاوز واقع كل جزء وتُفقده مرونته السياسية؟

أم سيكون هناك تحول جذري يعيد رسم العلاقات على أساس الاندماج في أسئلة هذه الأجزاء خارج ما تم فرضه عليها من قبل هذا الحزب العابر للحدود، على ضوء الشراكة، لا التبعية، وعلى ضوء المصلحة الكردية العامة، لا الوصاية الأيديولوجية، وبعد اعتبار أيديولوجيا حزب العمال جزءاً من الماضي، فحسب، وما كان له أن يمتد خارج مكانه، ومن ثم قطع العلاقة النهائية معه، من دون نسيان بسالة بطلاته وأبطاله؟

إذ، ونحن نلوّح للدمار بالوداع، لا يمكن أن نطوي صفحة البطولة ببرود. لا يمكن أن نغفل عن أولئك الذين صعدوا الجبال، لا لهواية الحرب، بل لأن أبواب الأرض سُدّت في وجوههم، فاختاروا العلو. بطلات الغريللا وأبطالها، نساء ورجالاً، رسموا في الثلج والرماد خارطة الشجاعة، واقتبسوا من أرواحهم شعلة لا تنطفئ. إنهم من صنعوا بصبرهم وشهادتهم الكثير من وعي وكرامة ومطالبة بالحقوق. دمهم ليس نداءً للحرب، بل هو وصية ضد النسيان. وصية بأن لا تُختزل القضية في تسويات هشة، ولا تُطوى التضحيات في طيّ النسيان السياسي. كل حوار لا يبدأ باعتراف بدمائهم، يظل ناقصًا، وكل مشروع سلام لا يعترف بعظمة فدائهم، هو مشروع صامت كالقبر.

إنَّ أم الشهيد الكردي، سواء من مهاباد أو كوباني أو زاخو، لا تطلب أكثر من كرامة لذكرى ابنها، ومستقبل لأحفادها. لقد قدّمت فلذة كبدها من أجل كردستان حرّة، لا من أجل مشاريع مغلقة أو انتصارات وهمية على الورق. لا يمكن أن يكون دم الشهيد معبرًا نحو المزيد من الانقسام، بل يجب أن يكون جسراً نحو مشروع قومي إنساني يُعيد للوجود الكردي معناه ومكانته.

أجل. ومن بين الركام، لا تُنسى وجوه الأمهات، أولئك اللواتي غسلن دماء أولادهن بدموع الكبرياء، لا بالندب. أمهات الشهداء في روجهلات، روج آفا، باكور، وباشور، حملن صور أبنائهن في الصقيع، ووقفن في وجه الظلم والخذلان العالمي، بصمت أبلغ من الخطب. تلك الأم التي أرسلت ابنها إلى الجبل دفاعاً عن كرامة شعبها، لم تكن عاشقة للفقد، بل كانت تحلم بعدالة لا يحققها صمت القبور، بل صراخ التضحيات. كل أم كردية فقدت- مخيَّرة- ابنها أو ابنتها على ذرى كردستان، لا تنتظر تعويضاً، بل اعترافًا صريحًا بأن دماءهم لم تذهب هدراً. ومن دون هذا الاعتراف، لا معنى لأي مصالحة، ولا جدوى من كل البيانات والمواثيق.

لا أحد يهوى الحرب، ولا أحد يربح منها سوى صناع السلاح وتجار الدم. السلام ليس ضعفاً، بل قوة تجاوز. ولكن، لا يجوز للسلام أن يكون عملية استسلام ناعمة أو نسياناً مقنّعاً، بل يجب أن يكون استحقاقاً متبادلاً، قائماً على الاعتراف، وضمان الحقوق، ورفع كل أشكال الإنكار.

ولأجل شرق أوسط بلا حروب، بلا فصام دائم، لا بدّ من حلّ جذري للمسألة الكردية.

لا استقرار في هذه المنطقة ما لم تُصحح الجريمة الجغرافية التي جعلت من الكرد شعبًا بلا دولة، وصوتًا دائمًا خارج الخريطة.

إن مشروعية الدولة الكردية ليست نقيضًا للسلام، بل هي شرطه، وهي الخطوة الأولى نحو شرق أوسط جديد، لا تصنعه الطائرات، بل العدالة.

وداعًا للسلاح؟


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.