هل من سلام ممكن بعد الحرب على غزّة بكل تداعياتها وما تركته من كراهية وألم وفقدان الأمل؟ الإجابة: نعم، بقيام الدولة الفلسطينية المدنية السلمية الديموقراطية التوافقية كمقاربة رئيسية لحلّ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وفي إطارها تتم معالجة كل المشاكل والعقد التي يتكوّن منها الصراع، بما فيها العقدة الأمنية واللاجئين. لكن هل تريد إسرائيل السلام وتقبل بقيام الدولة الفلسطينية؟ ليس بالمنظور التقليدي للدولة بعناصرها الثلاثة: السيادة، الشعب والإقليم، ولكن بمفهوم الدولة الإيجابية المتفاعلة، وخصوصاً أن مقاربة الدولة الفلسطينية تقع في قلب ما يُعرف بإسرائيل كدولة. لكن المشكلة هنا تصطدم بالمفهوم القومي العنصري لإسرائيل ومفهومها للدولة القومية التي ترفض الدولة الفلسطينية، وهي التي تقف وراء الحروب المستمرة والدفع نحو تهجير ملايين الفلسطينيين وتكرار النكبة الفلسطينية الأولى. المنطلق الأساس لهذه المقاربة هو التسليم بوجود فلسطين الدولة كما إسرائيل الدولة، وهذه حتمية سياسية وجغرافية أيضاً.
لكن كيف يمكن للدولة الفلسطينية أن تكون الباب الواسع للسلام الشامل في المنطقة، والمقصود به السلام مع كل الدول العربية؟ ابتداءً، إنَّ مقاربة الدولة الفلسطينية تُعتبر تنازلاً كبيراً من قبل الطرف الفلسطيني، فاستناداً للقرار الأممي للتقسيم رقم 181، والذي نصّ على حلّ الدولتين بدولة عربية بمساحة تقارب 44 بالمئة من مساحة فلسطين، فإنَّ الحديث اليوم هو عن دولة فلسطينية بمساحة تقارب 25 بالمئة، وهذا تنازل كبير. إضافة إلى أنه يمنح إسرائيل شرعية لكل سردياتها وحقها في قيام دولتها، وهذا أيضاً تنازل تاريخي مهم.
ثانياً: إنَّ مقاربة الدولة الفلسطينية ستشكّل إطاراً عاماً وشاملاً لكل إشكاليات القضية الفلسطينية، وأهمها اللاجئون، وفي سياقها قد يتم حلّ هذه المشكلة والتخلّص من مشكلة المخيمات في الدول العربية، وأحد الحلول بالعودة إلى هذه الدولة.
ثالثاً: إنَّ قيام الدولة الفلسطينية يقدّم حلولاً لمشاكل إسرائيل الأمنية وبقائها، والذي فشلت فيه كل الحروب التي قامت بها، وآخرها الحرب على غزّة، فهي دولة ليست عسكرية بل دولة مدنية ديموقراطية، ولنقل: دولة اقتصادية تتيح الفرصة للتعايش والمشاريع المشتركة، وتكون بداية لتكرار نموذج الأخوّة الإنسانية الذي وقّع عليه بابا الفاتيكان وشيخ الأزهر في أبوظبي.
رابعاً: إنَّ مقاربة الدولة الفلسطينية تعني حلّ الصراع على المستوى العربي ومنح إسرائيل فرصة للسلام والتطبيع الشامل مع كل الدول العربية، وهو ما يعني قبول إسرائيل في المنظومة العربية، وإعادة بناء نظام إقليمي على أسس من السلام والتعايش المشترك والمشاريع الاقتصادية الكبيرة، في وقت تسود فيه الحرب الاقتصادية الكونية على مستوى العالم، وقد يُحوِّل المنطقة برمّتها إلى كتلة اقتصادية كبيرة لها تأثيرها ووزنها عالمياً. فقيام الدولة الفلسطينية يعني نزع العقدة الأمنية الأساس للصراع، أو ما يُعرف بعقدة ثيوسيديدس، بل يمتدّ تأثيرها على مستوى الدول الإقليمية كإيران وتركيا.
خامساً: قيام الدولة الفلسطينية يعني نزع كل المبررات التي ترددها الجماعات المتشددة، ونزع بذور العنف والكراهية والحقد السياسي والعنصرية، ليحلّ محلها قيم الأخوّة والسلام ونبذ العنف والكراهية، وهذا قد يتجسّد على مستوى الإعلام والتعليم وبناء أجيال جديدة تؤمن بالسلام.
سادساً: مقاربة الدولة الفلسطينية ستنعكس إيجاباً على حلّ مشاكل دول عربية كلبنان وسوريا والأردن بحلّ مشكلة اللاجئين، وعودة لمفهوم الدولة العربية القوية ونزع المبرّر لحمل السلاح.
اليوم، هذه المقاربة هي المتاحة والعملية التي تقدّمها الدول العربية وتتبناها كمقاربة للسلام ونزع خيار الحرب المدمرة، وهي التي تفسّر لنا مبادرة كثير من الدول العربية لقيام علاقات سلام مع إسرائيل، ليس من باب الضعف، وإنما إيماناً بخيار السلام، وإرسال رسالة قوية أنَّ الدول العربية تؤمن بالسلام لحلّ مشاكل المنطقة ومشاكل إسرائيل، وهي رسالة لإسرائيل أولاً، وفي هذا السياق، السلام هنا إيجابي، ووظيفته وهدفه السلام الشامل بقيام الدولة الفلسطينية، لتكون إضافة للسلام، والحدّ من السباق والإنفاق العسكري، واستبداله بالإنفاق الاقتصادي والتنمية.
يبقى أنَّ مقاربة الدولة ستكون لها انعكاسات إيجابية على مستوى السلام العالمي وتطبيق الشرعية الدولية بالسلام وليس بالحرب، ولعل من أبرز التحوّلات الإيجابية التوجّه نحو مزيد من الاعتراف الأوروبي والدولي بالدولة الفلسطينية، الذي يقارب مائة وأربعين دولة.
أخيراً، الدولة الفلسطينية قائمة ومعترف بها في الأمم المتحدة كدولة مراقب، ودولة لها عضوية كاملة في أكثر من منظمة أممية وظيفية. هذه معانٍ وقيام الدولة الفلسطينيَّة.