: آخر تحديث

«في البدء كان الكلمة» في لبنان

7
7
6

د. نسيم الخوري

ليس أقدم من إشكاليات العلاقات بين السلطات الرسمية والصحافة ووسائل الإعلام بشكل عام وخصوصاً في بلد متحيِّر يبحث عن ملامح مستقبله تحت لحظٍ دقيقٍ للعيون العالمية وخصوصاً العربية والفرنسية والأمريكية، بل قُل بالحبر الواضح للعيون الشقيقة الخليجية. هناك صعوبات هائلة جديدة أو متجددة في بقاء الكلمة في لبناننا «صاحبة الجلالة» الحرّة المحورية الحكيمة والبسيطة الصريحة الباحثة عن المستقبل السليم والمريح والحضاري، بعيداً من كوارث الدماء والقذائف والحروب، لا يمكن أن تتحمَّل الكلمة مسؤولية قصف ظهر البعير كي لا نقول قصف ظهر الوطن وجرّه نحو الحروب الداخلية، للكلمة أن تأخذ طريقها نحو الصورة المشرقة لهذا الوطن الصغير، الذي ذاق ويذوق في تاريخه المُعاصر ما لا تتسع له الكتابات وأذواق الصحافة. لماذا هذه المقدّمة؟ لأنَّ تكرار الصحفي وليد عبّود (وهو بالمناسبة كان من طلاّبي البارزين في كليّة الإعلام والتوثيق) لمقدمة البرنامج الحواري بعنوان: «سجال بين لبنانين» عبر شاشة تلفزيون لبنان الرسمي وفيها استعاد: «حلّوا عنّا أنتم وسلاحكم ومسيراتكم وأبواقكم.. ومحوركم.. نريد أن نعيش..» قالها غسّان تويني يوماً في الأمم المتّحدة: «دعوا شعبي يعشْ» كادت المقدمة لمئة سبب وأسف أن تُشعل النيران في محيط محطة «تلّة الخيّاط» ولبنان لولا نباهة الصديق القانوني الدكتور بول مرقص وزير الإعلام اللبناني وحكمته الذي أمرَّ بوقف البرنامج. سبق أن بثّ عبّود الحلقة عبر برنامجه على شاشة ال«أم تي في» لكنها سرعان ما تحوَّلت عبر التلفزيون الرسمي إلى مادة ملتهبة غصّ بها لبنان ووسائل التواصل ونسي الرأي العام الأحداث الضخمة والخطِرة والحروب الهائلة التي كانت تفتح العيون المحلية والعالمية على الحروب الصاروخية والفضائية الهائلة. صحيح أن ردود الأفعال وترهيب أصحاب الرأي مرفوض، لكنّ وسائل التواصل الاجتماعي قفزت بحرية لبنان بلا ألف ولام نحو تشويه المناخات العامة وتدفق الغرائز الطائفية المكبوتة في وطنٍ لبناني لا حدود فيه للتعبير ولا نوافذ أو أبواب ولا حتى بدايات أو نهايات بل الاستغراق في الصراعات، دار بيني وبين وزير الإعلام حوار سريع عاقل وموزون درءاً لردود الأفعال واتّفقنا بأن لبنان سيبقى عريقاً بنظامه الديمقراطي مع أنّ حرّية الإعلام في لبنان علامة فارقة سبقت ربّما وسائل التواصل قبل أن يتبوأ أعقد وزارة لبنانية وكلانا ومعظمنا يعرف أنّ الفيلسوف «مونتسكيو» حدّد الأنظمة الديمقراطية للثورة الفرنسية بسلطات أربع «البرلمانية والتنفيذية والقضائية وجاءت الإعلامية في المرتبة الرابعة». سؤال: لماذا البحث عن رأس مونتسكيو وقد قطعت الحرية رأسه في عصر الفضاء؟ باسم ماذا ومن؟ باسم الحرية.. المطلقة. نعم! وإلى أين من هنا؟ ألم تتابع العيون العالمية أخيراً سلوك زوجات بعض رؤساء الدول العظمى مع أزواجهن الرؤساء في أمريكا وفرنسا إذ نُشرت الصور الفضائية الصادمة فوراً، لكأنّ العيون العالمية مقيمة في شاشات أجهزة التواصل؟ ألا نكابد المرارة حيال أولادنا وأحفادنا يتمرسون بأصابعهم الطرية الحرية المطلقة التواصلية بلا ألف ولام نقطع أي رأس أو لسان أو نص لا يحلو لنا لكأن مشاعية التصوير والتعبير صارت هم السلطات الثلاثة المطلقة؟ أذكّر بالقائد نابليون بونابرت وعلى سبيل الطرفة والظرافة فقط، إذ كان شديد الوعي والانتباه لسلطات الصحافة يُتابعها وقد كان يثير غضبه أي نقد بسيط. تصوروا أنّ نابليون بعث يوماً برسالة إلى «جوزيف فوشيه» وزير البوليس الإداري في فرنسا وفيها: «اقمع الصحف.. لا شيء يُثير قلقي ويؤلمني أكثر مما تفعله الصحافة»، بعيدون في لبنان عن نابليون أضعاف ابتعادنا عن «فرنسا الحنونة» مع أنّنا نتباهى أبداً بفرادتنا وحرياتنا لكأننا رحم أول للحريات المختلفة. نتباهى بوطننا الديمقراطي الجامع والرائد والمانع الرصين والمعروف ب«الميديا ستيت» لكننا لا نتباهى بتأبط ميزان الحكمة في القول والفعل عند تدفّق الكوارث والحروب العابرة للقارات، ضماناً للسلام المعقول والطمأنينة وإنجاح الانطلاقة نحو المستقبل، الذي بات ينتظره اللبنانيون في الخارج أقوى من الداخل كما تنتظره وتعمل له معظم دول العرب المحبة للبنان والعالم. اللبنانيون يعيشون الخطورة ملتمسين الحكمة في تاريخنا المعاصر لا يعنيهم سوى المستقبل السلمي والعمراني يكابدون تفكيك عقد المخاطر الشديدة المستوردة والمربكة بل المتجددة مذهبيّاً مسكونين عبر هذا الزمن الخطِر بحماية حريات الإعلاميين التعبير والنشر بهدف التغيير إذ «في البدء كان الكلمة».


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد