: آخر تحديث

قمة بغداد.. العودة إلى حضن العرب وسيادة نعمة الأمن والاستقرار

0
0
0

من يزور بغداد لأول مرة، يكتشف سريعا مقالب بعض وسائل الإعلام التي لا تنتهي، ويزداد قناعةً من أن ما صورته من مشاهد قاتمة عن الوضع فيها وفي سائر أنحاء العراق، يدخل في صنف "نصف الكأس الفارغ".

هناك نصف أخر ممتلئ من الكأس لا يمكن إدراكه إلا بالعين المجردة من قلب عاصمة الرشيد، ومن ثم، فإن الفارق عميق بين ما يصل إلى المتلقي البعيد، وما يؤكده الواقع الملموس. 

منذ أن حطت الطائرة بمطار بغداد الدولي، بدأت الصورة تتغير. لم يكن استقبال الصحافيين تقليديًا؛ بل حمل طابعًا رسميًا دافئًا، يُذكّر بمكانة الكلمة وأصحابها. بعد أن ساد اعتقاد بأن الصحافيين أصبحوا شبه منبوذين جراء ضجيج المدونين و"صناع المحتوى"، ما جعل الزميل والصديق الصحافي الاماراتي محمود العوضي يقول: "لأول مرة أشعر كأنني أُستقبل مثل وزير خارجية، شيء مفرح أن الصحافي ما زال يحظى بمكانته الاعتبارية، في زمن بات السائد فيه هو تجاهل كل شيء".

أول ما يلفت نظر أي صحفي فضولي في رحلته للبحث عن التفاصيل، صغيرة كانت أم كبيرة، هو كثرة الإنشاءات وورش البناء الواضحة المعالم على طول الطريق الرابطة بين المطار وشارع ابي نواس حيث يقف  فندق "بابليون" شامخا على ضفاف "دجلة الخير".

هذه الحركية تبقى عنوانا بارزا على أن البلاد استعادت عافيتها الامنية، وأنها تعيش مرحلة من الأمن والأمان، وتطمح للخروج من المنطقة الرمادية التي خلقتها أجواء غزو العراق للكويت في أغسطس 1990، وما تلاه من غزو أميركي عام 2003، رافقته فوضى وتفكك مؤسسات الدولة.

ثمة إحساس بسعادة غامرة ينتاب كل من يحل ضيفًا على بغداد، التي تبدو كأنها امرأة بلا شقيقات، فريدة بين الحسان. نهارها وليلها أكثر من رائعين؛ يُدخلان القلب وشغافه في انشراح لا يضاهى، وبهجة تلامس الروح، قد تجعل مني، من الآن الى حين مغادرتي بلاد الرافدين، صحافيا بقلب شاعر مرهف. 

منذ الوهلة الأولى، تأسرك حميمية شارع الكرادة الزاهي، حيث الإحساس بأن لك تاريخًا طويلًا من الألفة مع هذا الشارع الذي قرأت عنه مرارًا ولم أزره إلا وأنا في العقد الخامس من عمري. كأن لي فيه جذورًا قديمة.

هنا في بغداد، الناس مضيافون حتى النخاع. تطلب شايًا، فيمتنع صاحب المحل عن تقاضي ثمنه حين يعلم أنك ضيف عربي. وفي فرن يبيع الخبز العراقي الطازج، تتكرر اللفتة ذاتها.

العراقي لا يتعامل مع الزائر كغريب، بل كضيف له واجب إكرامه. وبينما تستغل السياحة في أماكن كثيرة لزيادة الدخل، يسعى العراقي لأن يجعل السائح يشعر وكأنه مالك المكان، لا مجرد زبون.

واذا سمحت لي صنعاء باقتباس ما قيل عنها على لسان الشاعر اليمني عبد الرحمن بن زيد الزبيدي، الذي عاش في العصور الإسلامية المبكرة، سأردد ملء شدقيّ : "لا بد من بغداد وإن طال السفر".

إن اقتناعي يتزايد يومًا بعد يوم بأن من يقصد مدينة ما، في قارة ما، عليه أن يتوجه إليها بقلب محب وعاشق، لا بقلب مغلق نافِر وأسير لأحكام مسبقة؛ فالمدن لا تُعطي خريطتها الداخلية إلا للعشاق.

قبل أن أطير إلى العراق، نبهني كثيرون من خطورة الوضع فيه. لكن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها، والتي تبرز كالشمس في كبد السماء، هي أن البلاد باتت، في السنوات الثلاث الأخيرة، أكثر أمنًا من أي وقت مضى، وبات المسؤولون فيها مقتنعون بأنه لا مفر من فرض الاستقرار والعض بالنواجذ عليه. 

بات بمقدور زائر بغداد هذه الأيام أن يتجول في أحيائها وشوارعها المضمخة بعبق التاريخ، من شارع المتنبي في الرصافة، إلى حي المنصور في  الكرخ، من دون الحاجة إلى مرافقين أمنيين. لقد انتهى زمن الإرهاب والرُّهاب، ولم يبق من شاهد عليه سوى اللوحات المنتشرة في شوارع بغداد، التي تحمل صور ضحايا التفجيرات التي اقترفها تنظيم "داعش"، وحزن الأمهات الثكالى ودموعهن .

تستعد بغداد لاحتضان القمة الرابعة والثلاثين لجامعة الدول العربية، وديدنها العودة إلى الحضن العربي.

منذ آخر قمة استضافتها العاصمة العراقية عام 2012 وحتى القمة المرتقبة في 17 مايو الجاري، جرت مياه كثيرة تحت جسر العلاقات العربية - العراقية. وها هو المراد  يتحقق خطوة خطوة، لا سيما بعد التحولات الكبرى التي عرفتها المنطقة جرّاء تداعيات "طوفان الأقصى". ورغم أنه بات معروفا أن العديد من القادة العرب سيغيبون عن قمة السبت المقبل، مع توقع حدوث مفاجآت، يبقى الثابت أن قمة بغداد سجلت مبدأً لن تحيد عنه البلاد مفاده أن العراق لا يمكنه أن ينسلخ عن جلده العربي.

في الشارع العراقي، يبدو واضحًا الشوق الكبير للعودة إلى حضن العرب. الناس هنا يتابعون أخبار العالم، وقد تعبوا من الحروب ومناورات الأيديولوجيا. ثمة توق لحياة أفضل، وتحقيق دولة رفاه ذات اقتصاد أقوى.

وإذا كانت مشاكل السياسة وعقدها كفيلة بأن يحلّها الزمن، باعتبار أن مفاتيحها ليست بيد أي قمة سواء انعقدت في المشرق أو المغرب، فإن الرهان الحقيقي يبقى على الاقتصاد وتطويره.

وليس من باب الصدف ان تنعقد القمة العربية التنموية: الاقتصادية والاجتماعية الخامسة في بغداد، بالتزامن مع القمة الدورية العربية الرابعة والثلاثين، فقد جرى خلال اجتماع المجلس الاقتصادي والاجتماعي، التصويت على أكثر من 30 بندًا تدعم التحول الاقتصادي والاجتماعي، من بينها إنشاء مجلس وزراء التجارة العرب.

لقد أثبتت لغة المصالح المتبادلة، وفق مبدأ "رابح - رابح"، أنها الأكثر قدرة على حل عُقد السياسة، ما دامت هناك منفعة مشتركة تخفف من حدة التوتر الذي أنهك المنطقة العربية على امتداد عقود طويلة.

في بغداد، تعود الحياة إلى طبيعتها التي لم تشهدها منذ سنوات، بينما تنتعش النفحة العربية من جديد، مثلما عادت البوصلة السياسية للاشتغال في الاتجاه الصحيح.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.