قبل فترة وجيزة، شهد العالم العربي حدثًا سياسيًا وفكريًا مزلزلًا لا يزال صداه يتردد، ومن المؤكد أن توابعه ستُشكّل الخطاب السياسي لسنوات قادمة. المحفّز؟ تسجيل صوتي نادر يجمع بين اثنين من أبرز شخصيات المنطقة: الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، والزعيم الليبي معمر القذافي.
يعود تاريخ التسجيل إلى الأسابيع الأخيرة قبل وفاة عبد الناصر في 28 أيلول (سبتمبر) 1970، عن عمر يناهز 52 عامًا، إثر نوبة قلبية مفاجئة، عقب اختتام قمة جامعة الدول العربية في القاهرة.
فور نشره، سارع الناصريون والقوميون العرب واليساريون وأنصار ما يُسمى "محور المقاومة" إلى نفي التسجيل باعتباره مُزوَّرًا، زاعمين أنه مُنتَج باستخدام الذكاء الاصطناعي.
بدا المحتوى مفاجئًا لدرجة يصعب تصديقها: فالرجل الذي كان يُبجَّل لعقود من قِبل أتباعه كشبه إله، يُنكر علنًا مثالية القومية العربية، ويُقرّ بعدم جدوى الحرب، ويدعو إلى حل سلمي مع إسرائيل.
جاءت الضربة القاضية للمشككين من داخل المعسكر الناصري نفسه. فقد أكد عبد الحكيم عبد الناصر، نجل الرئيس الراحل، علنًا صحة التسجيل، وكشف أنه رفعه بنفسه على قناة يوتيوب باسم "Nasser TV"، ووعد بنشر مواد أرشيفية إضافية قريبًا.
يثير هذا الكشف سؤالًا مقلقًا: كيف يمكن لمثل هذه الوثائق التاريخية شديدة الأهمية والتي تتعلق بمنطقة وأمة بأكملها أن تترك في أيدي عائلة زعيم سابق، وتُعامل كما لو كانت ألبومات صور شخصية أو ملاحظات عن ألوان البيجامات؟
كان يجب أن تكون هذه التسجيلات بحق داخل الأرشيف الوطني الرسمي لمصر، لأنها ليست إرثًا خاصًا؟
منذ تأكيد صحة التسجيل، استمر الجدل بلا هوادة. اعتبره البعض لحظة يأس أو ضعف شخصي، بينما اعتبره آخرون صحوة متأخرة ربما كانت ستغير مجرى التاريخ العربي لو لم تُقطع.
ومن بين اللحظات الأكثر لفتًا للانتباه في صوت ناصر تلك التصريحات التي تكشف عن تحول دراماتيكي في خطاب الحرب، واعتراف صريح بعدم جدوى الشعارات القومية العربية والتفاخر الثوري، ومن أبرز مما قاله:
حول استعداده للسعي إلى السلام بكرامة:
"أنا منفتح على السلام... ولكن ليس على الاستسلام. السلام يجب أن يشمل الانسحاب والضمانات... علينا أن نظهر أمام شعبنا كمنتصرين، لا كمهزومين".
حول استحالة هزيمة إسرائيل عسكريًا:
"لا يمكننا محاربة إسرائيل والفوز، هذا مجرد كلام فارغ. لم تعد هذه حربًا؛ إنها شيء مختلف تمامًا. إسرائيل ليست وحدها التي تقف وراءها، أمريكا تقف، وجميع القوى التي تحرك خيوطها موجودة".
حول الواقعية السياسية بعد الهزيمة:
"الخيال شيء، والسياسة شيء آخر... الخطابات الرنانة لا تُغذي الناس. المهم الآن هو حماية الوطن، لا إهداره بالشعارات".
حول ضرورة المفاوضات غير المباشرة:
"لا يمكننا إخبار الناس بأننا نتفاوض. لكن بإمكاننا أن نطلب من أحدهم أن يتحدث نيابةً عنا... وهكذا نبدو وكأننا حافظنا على مكانتنا في نظر الجمهور".
وعن وجهة نظره الشخصية بشأن المواجهة القادمة:
"أعتقد أن الحرب القادمة، إن حدثت، ستنتهي لصالح إسرائيل، وليس لصالحنا. لا أريد أن أخدع نفسي أو الشعب".
حول القادة العرب ومواقفهم:
معظم القادة العرب يعملون لصالح أنفسهم، لا لصالح وطنهم... كل واحد منهم يريد أن يكون القائد الأوحد، حتى لو كان الشعب يتضور جوعًا.. فلسطين؟ آخرون؟ لا يهم. المهم هو الكرسي"..
لحظة انكشاف... ونهاية أسطورة
في هذه المرحلة، من المهم التوقف والاعتراف بحقيقة يجهلها كثيرون: رغم شعبيته الجارفة بين الجماهير العربية، كانت علاقات جمال عبد الناصر بمعظم القادة العرب متوترة، وغالبًا عدائية بشكل علني. وأمثلة ذلك كثيرة:
فقد دخل في خلافات حادة مع الملك حسين ملك الأردن، بلغت ذروتها باتهامات متبادلة بالخيانة بعد الهزيمة الكارثية في عام 1967.
وتعمقت عداوته مع الملك فيصل بن عبد العزيز، ملك السعودية، خلال الحرب الأهلية اليمنية، حيث دعم ناصر الجمهوريين بينما دعم السعوديون الملكيين.
أما علاقته بالرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، فكانت فاترة ومتوترة، لا سيما بعد خطابه الشهير في أريحا عام 1965، الذي دعا فيه إلى "الاعتراف بإسرائيل والتفاوض معها"، معتبرًا أن الواقعية السياسية تقتضي هذه الخطوة. غضب ناصر وندد به، ونعته بالخيانة.
كما اصطدم مع أحمد حسن البكر وصدام حسين في العراق، رغم الشعارات القومية المشتركة، بسبب طموحات متضاربة وصراع على الزعامة.
ويأتي تقييمه الساخر لموقفه وموقف العرب بعد الهزيمة معبرًا بمرارة:
"لقد أصبحنا من دعاة الحل السلمي... أي المهزومين. حلو عنا بقى".
ورغم أن ناصر تولى السلطة رسميًا عام 1956 عقب استفتاء شعبي، فإنه كان الحاكم الفعلي منذ عام 1954، بعد الإطاحة بمحمد نجيب. وقد اتسم إرثه السياسي بخطب نارية، وشعارات معادية للغرب وإسرائيل، ومقولات رنانة مهدت الطريق لعقود من الخطاب التعبوي الأجوف في العالم العربي.
فقد رسّخ عبارات مثل: "ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة" و"لن نتفاوض مع إسرائيل أبدًا" و"سنعود إلى القدس"، وحوّلها إلى نصوص شبه مقدسة، محفورة في الوعي الجمعي، محصّنة ضد أي تفكير نقدي أو مراجعة. كما كان أحد أبرز مهندسي "اللاءات الثلاث" الشهيرة في قمة الخرطوم عام 1967: لا سلام مع إسرائيل، لا مفاوضات مع إسرائيل، لا اعتراف بإسرائيل.
لكن التسجيل الصوتي المكتشف حديثًا يهدم هذا الإرث من أساسه. فبصوته، يعترف ناصر بفشل شعاراته، ويقرّ بأن عناده لم يخلّف سوى دولة مُفككة فقدت زعامتها الإقليمية. يكفي أن نتذكر أن اسم "الجمهورية العربية المتحدة"، الذي أُطلق في عهده، ظل التسمية الرسمية لمصر حتى عام 1971، أي بعد عشر سنوات من انهيار الوحدة مع سوريا عام 1961.
خطة روجرز: الاعتراف السري
يؤكد التسجيل، دون لبس، أن ناصر وافق سرًا على مبادرة وزير الخارجية الأميركي ويليام روجرز عام 1970، والتي دعت إلى وقف إطلاق النار بين مصر وإسرائيل تمهيدًا لتسوية سياسية. كانت الخطة تنص على انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة عام 1967 مقابل اعتراف عربي بها. ورغم رفضها علنًا من قبل معسكر الرفض، فإن ناصر أيدها سرًا، كما يُثبت التسجيل.
لقد أحدث هذا الكشف زلزالًا سياسيًا وفكريًا، لا لأنه كشف عن إدراك متأخر لرجلٍ ارتبط اسمه بالعناد والشعارات الجوفاء، بل لأنه يبرهن أنه، في لحظاته الأخيرة، أدرك أن السياسة لا تُدار بالشعارات، وأن الهتاف وحده لا يبني وطنًا.
ومن أكثر ما شدّ انتباهي في التسجيل، إصرار ناصر المَرَضي على تضليل الرأي العام، وتزييف الوعي، وتبييض الإخفاقات، وتقديمها في صورة إنجازات، فقط للحفاظ على صورته ومكانته.
وكأن هذا الرجل لم يسمع يومًا عن الحق المقدّس للمجتمع في المعرفة والمساءلة!
رسالة ختامية إلى أنصار "معسكر المقاومة"
إلى أولئك المتحصنين في قلاع الكراهية العمياء تجاه إسرائيل، والذين يقدّسون الشعارات ويرفضون المراجعة ألم يحن الوقت لوقفة تأمل صادقة؟ لمراجعة الذات؟ للتخلي عن عبادة الصفر باعتباره رقمًا مقدسًا؟
* نُشر هذا المقال في صحيفة "يسرائيل هيوم" بنسختها الإنجليزية، ويُنشر في "إيلاف" حصريًا باللغة العربية.