صادف الثالث من أيار (مايو) من كل عام، اليوم العالمي لحرية الصحافة كما أعلنته منظمة اليونسكو الأممية. ومن المناسب في هذا اليوم أن نستعرض حالة حرية الصحافة في العالم، والتغيّرات التي طرأت عليها، والتحديات التي يواجهها الإعلام الحر في عصرنا الحالي.
في الماضي، كان النضال من أجل حرية الصحافة يتركز أساساً على مقاومة أنظمة الحكم الاستبدادية التي كانت تسعى لقمع حرية التعبير بهدف منع الشعب من تلقي تقارير صادقة عن الواقع الذي يعيشه، ومنع توجيه النقد للسلطة للحفاظ على هيمنتها. وقد تم ذلك من خلال وسائل قمعية شملت سجن الصحفيين الذين خالفوا خط السلطة، بل وحتى اغتيالهم، بالإضافة إلى إغلاق الصحف ووسائل الإعلام التي لا تنصاع لأوامر النظام. ولا تزال هذه الظواهر قائمة في العديد من الدول التي تسود فيها أنظمة دكتاتورية بدرجات متفاوتة، ويجب علينا الاستمرار في النضال ضدها.
لكنَّ التهديدات التي تواجه حرية الصحافة تطورت وأصبحت أكثر دهاءً، ولكنها ليست أقل خطورة، بل ربما أشد.
ويمكن تقسيم هذه التهديدات إلى عدة أنواع. النوع الأول هو السيطرة الاقتصادية على وسائل الإعلام، مما يتيح للمالكين فرض رقابة على المعلومات أو توجيه الخط التحريري بما يخدم مصالحهم التجارية والسياسية، وذلك تحت شعار "حرية الملكية وحرية العمل"، على مبدأ "من يملك المال يملك الرأي"، مع استخدام مصطلح "تعددية الآراء" بشكل زائف. في إسرائيل، يمكن أن نلاحظ هذا النوع من المساس بحرية الصحافة في القنوات والصحف التي يمتلكها أصحاب رؤوس الأموال. ويحاول الصحفيون النزيهون والهيئات التنظيمية الديمقراطية مقاومة هذه الظاهرة، أحيانًا بنجاح وأحيانًا دون جدوى.
من الصعب كشف هذا النوع من التعدي على حرية الصحافة، لأنه لا يتم في العلن، بل خلف الكواليس، حيث "يوصي" المالك المحررين باتباع خط معين أو بالتقليل من أهمية معلومة معينة أو تجاهلها بالكامل، وكذلك بعدم المبادرة إلى تحقيقات في قضايا لا تخدم مصالحه.
وبالإضافة إلى التدخل المباشر من قبل المالك في المحتوى، هناك "الأثر المبرد"، حيث يخشى الصحفي على مصدر رزقه أو مكانته، ويعرف جيدًا موقف المالك من موضوع تحقيقه، مما يجعله يتردد في المبادرة إلى تحقيق أو في إبراز خبر لا يتماشى مع توجهات صاحب وسيلة الإعلام. هذا النوع من الرقابة الذاتية هو الأخطر، لأنَّ المعلومات التي تُخفى يمكن أن تجد طريقها للنشر في وسائل إعلام أخرى، أما امتناع الصحفي عن السعي وراء المعلومات، فهو أمر غالبًا لا يمكن إصلاحه.
خطر آخر يهدد الإعلام الحر هو فيض المعلومات، سواء الحقيقية أو المزيفة، والقدرة المتزايدة لأدوات الذكاء الاصطناعي على إنتاج مثل هذه المعلومات ونشرها دون رقابة عبر وسائل التواصل الاجتماعي. هذا "الفيضان" يجعل من الصعب على الجمهور رؤية الصورة الكاملة، فيضيع المهم في زحمة التافه، وتفقد الأخبار الجوهرية قيمتها، بل وتُدفن أحيانًا في أكوام من المحتوى.
وتؤدي هذه الظاهرة إلى تخدير حواس المستهلك، وتوليد نوع من اللامبالاة تجاه أخبار كان من المفترض أن تثير الصدمة في ظروف مختلفة. إنه تأثير "المدمن" الذي يحتاج إلى جرعات متزايدة من المحتوى الصادم للحفاظ على نفس مستوى التأثر.
وليس هذا فحسب، بل إن انتشار الأكاذيب والتزوير المدعوم بأدوات الذكاء الاصطناعي يجعل من الصعب التمييز بين الحقيقة والكذب. وكما قالت الفيلسوفة والمؤرخة حنا أرندت في منتصف القرن الماضي: "الأكاذيب المستمرة لا تهدف إلى جعل الناس يصدقون الكذب، بل تهدف إلى جعلهم لا يصدقون شيئًا على الإطلاق. أمة لا تستطيع التمييز بين الحقيقة والكذب، لا تستطيع التمييز بين الصواب والخطأ".
فما الذي يمكننا فعله إذًا في مواجهة هذه الأخطار للحفاظ على وعي حر للمواطنين وقدرة سليمة على التمييز في نهر المعلومات الجارف؟
أولًا، يجب تعزيز الأنظمة والهيئات التنظيمية الحكومية التي تعمل على ضمان وجود إعلام حر، وذلك من خلال إنشاء حاجز واضح بين غرفة الأخبار ومالكي وسائل الإعلام.
ولا يُقصد هنا أن يكون للجهة المنظمة تأثير على المحتوى، بل أن يكون دورها يقتصر على ضمان احترام قواعد الفصل.
ثانيًا، يجب الحفاظ على بث عام قوي ومستقر، لا يخضع لسلطة الحكومة، ويعمل محرروه وفقًا لقواعد الأخلاق الصحفية وحرية الرأي والمعلومة فقط. هذا النوع من البث ضروري في كل ديمقراطية، وليس من قبيل الصدفة أننا نشهد محاولات من جهات ذات ميول استبدادية لتحجيمه أو إلغائه.
ثالثًا، تقديم حماية قانونية معززة للصحفيين ضد التحقيقات غير المبررة وانتهاك سرية المصادر الصحفية، ووضع عقبات أمام المالكين لمنع فصل الصحفيين تعسفياً، من خلال آليات تمنح تعويضات عالية في مثل هذه الحالات.
رابعًا، التربية على الوعي الإعلامي منذ سن مبكرة، لتزويد الجيل الصاعد بكفاءات وأدوات لمواجهة سيل المعلومات المزيفة أو المنحازة وللتمييز بينها وبين المعلومات الصادقة.
إذا لم نبادر إلى اتخاذ هذه الخطوات، فإن خطر التهديد لحرية الصحافة، وبالتالي على الديمقراطية، سيتفاقم بوتيرة أسرع مما نتصور.