لا يختلف إثنان على أن منطقة الشرق الأوسط تمر بمرحلة تحولات كبرى كانعكاس لتحولات أكبر وأوسع يشهدها النظام العالمي الراهن، وأن التغيير يجتاح المنطقة وباتت مسلّمات وتعريفات ظلت ـ ولا تزال ـ سائدة لفترة طويلة مثل "العدو الاسرائيلي" قيد التغيير في بعض الدول بعد أن تغيرت بالفعل في مساحة ليست قليلة من المنطقة، كما تحولت صيغة الصراع إلى صيغة التعاون والأهم أن النظرة العربية التقليدية التي استمرت لعقود طويلة مع إسرائيل تتلاشى تدريجيا وتحل محلها نظرة طبيعية ربما لم تصل بعد إلى حد القبول التام ولكنها في الطريق لذلك، واتحدث هنا عن المستوى الشعبي في دول عربية عدة ولا اعمم، ولا اقول أن الأمر قد اختلف كلياً، ولكن مجرد حلحلة الصورة الذهنية لإسرائيل وإحداث حراك بهذا الشكل هو إنجاز نوعي كبير يحسب لاتفاقات السلام التي دشنتها دولة الإمارات مع إسرائيل في أغسطس 2020.
معروف أن هناك تطبيع للعلاقات الرسمية بين كل مصر والأردن مع إسرائيل منذ عامي 1979 و1994 على التوالي، فضلاً عن اتفاق اوسلو بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل عام 1993، ولكن لا يمكن انكار أن هذه الاتفاقات لم تنقل حالة السلام الرسمية إلى الشارع، لأسباب واعتبارات عدة تكاد تكون معروفة للجميع، ولكن ميزة "إتفاقيات إبراهيم" أنها انتقلت على الفور لتلامس نبض الشعوب في الدول التي وقعتها، مثل دولة الإمارات ومملكة البحرين لسبب رئيسي هو أن هذه الاتفاقيات استفادت من دروس تجارب الماضي وركزت على الشق الاقتصادي والسياحي والاستثماري وكل ما يؤسس لعلاقات طبيعية بين الدول.
في ضوء ماسبق، لم استغرب دعوة رئيس الوزراء الاسرائيلي نفتالي بينيت خلال زيارته مؤخراً للمنامة لاقامة "تحالفات" بين إسرائيل والدول العربية، حيث يلاحظ أن هذه الزيارة الرسمية الأولى لرئيس وزراء حكومة إسرائيلي للمملكة قد اشتملت ـ إلى جانب لقاء الملك حمد بن عيسى آل خليفة وولي العهد ورئيس الوزراء الأمير سلمان بن حمد آل خليفة، على نقاشات معمقة مع المعنيين البحرينيين حول استغلال المزايا النسبية للموقع الجغرافي للبلدين في تسهيل حركة البضائع بين آسيا وأوروبا.
قد يقول قائل أنه لا يمكن استبعاد الشق العسكري والأمني من أجندة زيارة بينيت للبحرين، كون البلدين يتعرضان للتهديدات ذاتها، وهذا أمر لا يمكن انكاره، ولكنني أعتقد أنه لا يمثل أساساً للعلاقات الثنائية أو على الأقل لا يحتل المساحة الأكبر من التفكير الإستراتيجي، فرغم الإستفزازات التي تتعرض لها مملكة البحرين من الجار الإيراني فإنها لم تتجه لبناء علاقات رسمية مع إسرائيل للتصدي لهذه الاستفزازات، ومن المفترض تقييم مثل هذه التوجهات السيادية في إطار منظور إستراتيجي أشمل لا يقتصر على متغير محدد، فالمنطقة كلها بل العالم كله يتغير.
صراحة أنا لا أعلم لماذا تستنكر بعض الأطراف الاقليمية على دول مجلس التعاون التوجه حيثما تكون مصالحها الإستراتيجية ، ولاسيما أن من يدعي بذلك ينحو ـ هو نفسه ـ المنحى ذاته، فإيران ـ على سبيل المثال ـ تتحاور مع من لا تكف عن وصفه في خطابها وأدبياتها السياسية بـ "الشيطان الأكبر"بحثاً عن مصالحها، كما أن الولايات المتحدة نفسها، وهي الشريك الإستراتيجي الموثوق لدول اقليمية عدة، تنخرط في مفاوضات فيينا رغم وجود تحفظات عدة لدول المنطقة بشأن الإتفاق الذي انسحبت منه إدارة الرئيس السابق ترامب عام 2018، ما يعني أن هناك إحتمالية كبيرة للابقاء على الثغرات والإشكاليات والسلبيات ذاتها لو توافرت ضمانات جديدة بحسب الرؤية التفاوضية الأمريكية، وليس سراً أن هناك تفاهمات تلوح في الأفق لإحياء الاتفاق النووي الموقع مع إيران عام 2015، وليس سراً كذلك أن مستوى التهديدات الناجمة عن "مفرخة" الميليشيات التي ترعاها إيران في دول عدة بالمنطقة يرتفع ويتزايد بشكل خطير، وبالتالي يصبح من البديهي في ضوء كل هذه المعطيات والمتغيرات أن تتغير قواعد اللعبة الاقليمية وأن تتشكل أطر جديدة للتعاون أو حتى للتحالف لردع التهديدات وحماية أمن الدول واستقرارها، ولكن الإشكالية تبقى في محاولة فرض الرأي وبسط النفوذ والهيمنة على سياسات الآخرين انطلاقاً من إحساس بالتفوق والاستعلاء يحول دون توافر فهم وإدراك موضوعيين لسياقات الأحداث والتطورات الجارية.
واقعيًا لا أحد في دول مجلس التعاون يسعى لتأزيم الأمور ولا النفخ في نار الفتن ولا توتير الأجواء لأن هذه الدول ببساطة لديها مشروعات تنموية طموحة تلهث من أجل استكمالها وتوفير المزيد من الرفاه والازدهار لشعوبها، ولا يخفى على أحد التسابق الهائل في المشروعات التنموية بدول المنطقة، والتي تخلق حالة ايجابية محمودة من التنافس أو التكامل ـ لا فرق ـ لأنها جميعا تصب في مصلحة اقتصادات الشعوب وصولاً إلى تعميم وإشاعة العوائد الاقتصادية على الكثير من دول العالم بحكم ما توفره هذه المشروعات من فرص للعمالة الأجنبية ونوافذ فرص جديدة للاستثمارات والصادرات والواردات والتبادلات التجارية الضخمة. وبالتالي ليس منطقياً القول بأن علاقات دول مجلس التعاون مع إسرائيل موجهة ضد هذا الطرف أو ذاك، أو أن تحالفات عسكرية بصدد التشكّل، ولكن المؤكد في هذا كله أن هناك مشروع يتشكل للأمن و الإستقرار الإقليمي، وأن هذا المشروع قائم على السلام والاستقرار والتعايش والتسامح وقبول الآخر، وهو سلاح حقيقي قادر على إزاحة كل مشروعات نشر العداء والفتن والفوضى والاضطرابات في منطقتنا رغم كل العراقيل والعقبات، فشعوب المنطقة جميعها ـ من دون استثناء ـ ترنو للعيش بسلام، ومن يرى غير ذلك عليه أن يراجع نفسه بدلاً من مواصلة استنزاف الموارد في السعي وراء أوهام لا يمكن بيعها سوى إلى تجار الحروب وباعة الشعارات والأحلام الزائفة.