يدرك المراقب أن هناك حسابات معقدة تحول دون تصريح الولايات المتحدة في الوقت الراهن تحديد بهوية الطرف او الدولة المسؤولة عن تفاقم التهديدات التي تواجه حلفائها في منطقة الخليج العربي، وأعني بذلك تحديداً الحساسيات المرتبطة برغبة البيت الأبيض في إنجاح مفاوضات فيينا، وتفويت الفرصة على الجانب الإيراني للتملص من التفاوض بعد مرور أكثر من عام .
ويدرك هؤلاء أيضاً أن كل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات تدعمان بقوة أي جهد او مبادرة سياسية مطروحة لتسوية الأزمة الحاصلة في اليمن، ولكن الأمر يتعلق بتشدد الحوثي ورغبته في إملاء شروطه الاقصائية والهيمنة على مفاصل الدولة اليمنية!
وفي ظل مايردده الحوثي في تبرير اعتداءاته الاجرامية على المنشآت المدنية بدولة الإمارات في الآونة الأخيرة، وحديث البعض عن توجه حوثي "منفرد" لاستهداف الإمارات بمعزل عن إرادة الراعي والممول والمورد الأوحد للسلاح والعتاد، تبرز مؤشرات عدة تنسف أي مزاعم بهذا الشأن وتؤكد التنسيق والتخطيط المشترك لكل ما يحدث من حولنا.
في الهجوم الفاشل الأخير على دولة الإمارات بطائرات مسيّرة، فوجىء الجميع بتبني ميليشيات تعرف بـ"ألوية الوعد الحق" العراقية للهجوم، ما أثار تساؤلات مشروعة ليس حول الارتباط بين الميلشيات الحوثية ونظيرتها في العراق وسوريا ولبنان، باعتبار أن الأمور على هذا الصعيد معروفة وواضحة للجميع ولا تنكرها حتى هذا الأطراف التي تتحدث علناً عن انخراطها وتبعيتها وولائها المطلق لمشروع أيديولوجي اقليمي معروف، ولكن التساؤل المثار في حالة الاعتداء الاجرامي على دولة الإمارات تحديداً يتعلق بمصلحة ميليشيا عراقية في التورط وتقديم الاسناد العسكري رغم ماتنطوي عليه هذه المغامرة غير المحسوبة من عواقب أقلها فضح شبكة العلاقات الاجرامية الآثمة بين هذه الميليشيات!
اللافت أن تطور الأمور لم يتوقف عند حد تبني الميليشيا العراقي للهجوم الأخير، بل دخل الاعلام الايراني على الخط من خلال تقرير نشر في موقع قناة "برس تبي في" الايرانية يشير إلى "توسع عمليات فصائل المقاومة لتشمل المنطقة الواقعة بين اليمن والعراق"، زاعماً أن الفصيل العراقي "غير معروف"، ومشيراً إلى أن توالي هذه الهجمات "يثبت عجز أنظمة الدفاع الأمريكية والاسرائيلية"، وأن "أوجه القصور ستظل موجودة" وأن (البحر الأحمر أصبح خطراً أكثر من اي وقت مضى بعد استعراض إيران زورق "بافار ـ2" الهجين الذي من المحتمل أن يستخدم لشن هجمات قادمة ضد الإمارات)، وأن من المرجح ـ وفقاً لتقرير الموقع الايراني ـ شن هجمات ضد الإمارات من طائرات مسيرّة من اليمن والعراق في آن واحد بالتزامن مع هجمات صاروخية من البحر".
التقرير الاعلامي الايراني يتحدث عما يحدث وما هو متوقع ـ بحسب مايزعم ـ وكأنه ينقل من خطة عملياتية تم توزيعها على هذه الفصائل، إذ لا يكتفي بالكشف عما وصفه بالتوقعات بل أيضاً يحدد ساحة عمليات جديدة لهذه الميلشيات تتحرك في نطاق يحدده بحوالي 4671 كم بين العراق واليمن مروراً بالإمارات، واصفاً إياها بساحة عمليات برمائية!
بعيداً عن المواقف الرسمية التي تراعي اعتبارات وحساسيات كثيرة، فإن رؤية المراقب لهذه التفاصيل لا تحتاج إلى كثير من التفكير للوصول إلى استنتاجات قد لا تكون يقينية ولكنها على الأقل تفسر الكثير مما يحدث حولنا، وتسلط الضوء على التشابكات القائمة بين الأطراف الميليشياوية وحدود المغامرة التي يخوضونها في الشرق الأوسط، وكيف يمكن أن تعيد هذه الأطراف ترسيم قواعد اللعبة ما لم يتم التصدي لكل هذه المغامرات من خلال تعاون وتنسيق على الصعد كافة بين كافة المتضررين، الفعليين والمحتملين، من هذه الانتهاكات.
لا يحتاج المراقب كثيراً للتفكير حين يريد التعرف إلى هوية من يمسك بخيوط اللعبة، الذي يبدو أنه قد تخلى عن إستراتيجية الاختباء وراء الكواليس واتجه إلى تكتيكات قائمة على الانكشاف المحسوب، بمعنى تأكيد دوره ومسؤوليته حتى لا يترك المجال لهدر الوقت في بناء التوقعات وجمع الدلائل والبراهين، من دون أن يتحمل عواقب ومسؤولية قانونية حقيقية عما يخطط ويمول ويوجه بالتنفيذ، وهذه لعبة معروفة ومكررة والجديد فيها هو مسألة الظهور المحسوب، الذي كان الدافع الأساسي له هو الحصول على تنازلات من أطراف إقليمية ودولية عدة، باعتبار أن الأمور قد بلغت درجة الحسم ـ وفق هذا التصور ـ سواء بالنسبة للأزمة اليمنية أو الملف النووي الايراني، فضلاً عن رغبة قوية في إرسال رسائل مهمة للغاية لأطراف يُعتقد أنها تتأهب للقيام برد فعل حاسم إزاء تهديدات محتملة، وعنوان الرسائل المقصود هنا هو إسرائيل تحديداً.
في ضوء ماسبق، فإن الرسالة المعاكسة التي يمكن استنباطها من هذه الممارسات العدوانية هي لدول المنطقة كافة ومفادها أنه لاسبيل لمستقبل آمن للجميع سوى من خلال المضي في ترسيخ الأمن والسلام وتشجيع ثقافة التعايش ونبذ الكراهية والطائفية والمذهبية، وليتأكد خطأ من يظن أنه يستطيع نسف المكاسب الإستراتيجية التي حققها الطرفان الإماراتي و الإسرائيلي من تطبيع العلاقات الثنائية، أو وقف هذا التوجه أو تجميده أو دفع الطرفين إلى التخلي عنه لتفادي التهديدات القائمة والمحتملة، وذلك لسبب بسيط هو أن الحل ليس في الإستسلام لمن يستهدفون القضاء على أجواء التعايش والسلام والاستقرار، بل العكس تماماً هو الصواب؛ فمواجهة هذا المشروع التدميري الخبيث من خلال المضي في ترسيخ السلام وتعزيز التعاون والبناء على المشتركات هو الخيار الإستراتيجي الوحيد لدول وشعوب المنطقة كافة.
ليس من المنطق ترك مصير الدول والشعوب بيد المغامرين وهواة الألعاب العدوانية الطائشة ورعاتهم ومموليهم، فهؤلاء لا حاضر لهم ولا مستقبل وتبقى مصالح الشعوب وتحقيق تطلعات ملايين الشباب في منطقتنا، هي البوصلة التي تشير للوجهة الحقيقة لمستقبل أفضل للجميع من دون استثناء.