صيغة الشمري
لم يعد العالم يقيس الصناعة الحديثة بحجم المصانع أو عدد خطوط الإنتاج، إنما بالقدرة على استيعاب المعرفة، وتحويل البحث العلمي إلى قيمة اقتصادية ملموسة.
وفي هذا السياق تأتي مبادرة «تقنيات التحول الاستثنائي» التي أطلقتها وزارة الصناعة والثروة المعدنية بالشراكة مع جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية (كاوست)، بوصفها أكثر من مجرد برنامج دعم تقني، لتكون بمثابة إعادة تعريف لدور البحث العلمي في مستقبل الصناعة الوطنية.
وتعكس المبادرة تحولاً ذكياً في التفكير الصناعي السعودي، حيث لم يعد الابتكار حبيس المعامل أو الأوراق البحثية، وبات أداة مباشرة لرفع الكفاءة، وتعزيز التنافسية، وتطوير منتجات ذات قيمة مضافة عالية، فشراكة وزارة الصناعة مع «كاوست» على وجه التحديد لا أظنها تفضيلاً عابراً، لأن هذه الجامعة تمثل أحد أهم مراكز المعرفة التطبيقية في المنطقة، وتملك سجلاً غنياً في ربط البحث العلمي بالتطبيق الصناعي.
وما لفت نظري في المبادرة أنها لا تميز بين منشأة صناعية كبيرة أو متوسطة أو صغيرة، وتفتح الباب أمام الجميع للاستفادة من حلول التصنيع الذكي والتقنيات المتقدمة، وفق احتياجات واضحة ومعايير دقيقة، وهذا نهج يعكس وعياً بأن التحول الصناعي الحقيقي يتحقق عبر رفع مستوى القاعدة الصناعية بأكملها.واعتقد أن اشتراط مشاركة الشركات لبيانات الأداء والإنفاق على البحث والتطوير يمثل خطوة جريئة، تعزز مبدأ الشفافية، وتحول الدعم الحكومي من مجرد تمويل إلى شراكة قائمة على قياس الأثر والعائد.
وهنا تتحول التقنية من فكرة براقة إلى أداة قابلة للتقييم والمساءلة، وهو ما تحتاجه الصناعة السعودية في مرحلة الانتقال من الكم إلى النوع.
ومن زاوية أخرى، أرى أن المبادرة تحمل بعداً استراتيجياً أعمق، إذ تضع التصنيع المتقدم في قلب رؤية المملكة 2030، وتربط بين الاستدامة والجودة والابتكار في معادلة واحدة، خصوصاً أن الصناعة المستقبلية ليست فقط الإنتاج بغزارة، بل أقل هدراً، وأكثر كفاءة في استخدام الموارد، وأكثر قدرة على المنافسة في سلاسل الإمداد العالمية.ومما سبق، يمكنني القول إن «تقنيات التحول الاستثنائي» ليست مبادرة تقنية فقط، بل أيضاً رسالة واضحة بأن المملكة تراهن على العقول قبل الآلآت، وعلى المعرفة قبل رأس المال، مبادرة تشكل نقطة انعطاف حقيقية، تنقل الصناعة السعودية من مرحلة التبني إلى مرحلة الريادة، ومن الاكتفاء بالمواكبة إلى صناعة المستقبل بثقة واقتدار.

