: آخر تحديث

فريحة ناقداً لخالد ولقطب

2
2
2

في خاتمة دراسة لأنيس فريحة، كان عنوانها «الحركة اللّاسامية في التاريخ»، منشورة في مجلة «الأبحاث»، السنة 3، الجزء 4، ديسمبر (كانون الأول) 1950، تعرّض فيها بنقد إجمالي لكتاب «من هنا نبدأ» لخالد محمد خالد، ولكتاب «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، واضعاً هذين الكتابين في طبق نقدي واحد، بوصفهما وجهين لعملة واحدة في تخبّط «الفكر العربي»، مع أنه شتان ما بين توجههما السياسي والفكري؛ فالكتاب الأول يستهدف علمنة الإسلام على صعيد الدولة والمجتمع، والكتاب الثاني كتاب إسلامي أصولي، بل هو كتاب ريادي في صوغ معالم الأصولية الإسلامية المعاصرة في العالم العربي.

مجلة «الأبحاث» هي مجلة سنوية محكّمة تصدرها كلية الآداب والعلوم في الجامعة الأميركية ببيروت، وللتفصيل هي تصدر في أربعة أجزاء كل سنة.

أنيس فريحة مؤرخ لبناني، عالم باللغة العربية، وباللغة العبرية القديمة، وباللغة السريانية، وباللغة الأوغاريتية. كان أستاذاً للتاريخ واللغات السامية بالجامعة الأميركية. أولى عناية قصوى بالفلكلور اللبناني جسّدتها أبحاث عدة كتبها. ترجم عدداً من كتب المستشرقين، وترجم بعض كتب فيليب حتي. بعد أن ناهز التسعين عاماً انقضى أجله في 21 سبتمبر (أيلول) 1993 ببيروت.

كنت قد لاحظت من سنوات عديدة على الكتب التي أُلّفَتْ عن سيد قطب – حتى التي منها تضمنت قائمة ببليوغرافية بما كُتب عن سيد قطب – أنها لم تشر إلى ما قاله أنيس فريحة عن سيد قطب في تلك الدراسة، رغم أنه ضمها مع دراسات أخرى له، وأصدرها في كتاب كان عنوانه «دراسات في التاريخ»، صدر في طبعته الأولى عام 1980.

هذا الكتاب كان يعوزه أن يكتب أنيس فريحة له مقدمة تعريفية بالدراسات التي ضمها، وأن يذكر بهامش أول صفحة أو بآخر صفحة منها تاريخ ومكان نشرها.

ولأن ما قاله أنيس فريحة عن سيد قطب كان مجهولاً عند الدارسين الذين ألّفوا كتباً وكتبوا رسائل علمية عن سيد، رأيت أن أعرض ما قاله عن خالد محمد خالد وسيد قطب في كتابَيهما: «من هنا نبدأ» و«العدالة الاجتماعية في الإسلام»، وبعده أناقش ما قاله عن كتابيهما وما قاله عنهما.

قال أنيس فريحة في خاتمة تلك الدراسة: «قرأت أخيراً كتابين ظهرا حديثاً في مصر، قيل لي إن أحدهما حُرق، وقُدم صاحبه للمحاكمة ولكن بُرّئ فيما بعد. الكتابان هما (من هنا نبدأ) لمحمد خالد، أحد العلماء، والثاني (العدالة الاجتماعية في الإسلام) لسيد قطب. وهذان الكتابان في رأينا الوضيع أفضل تمثيل على تخبط الفكر العربي. محمد خالد صاحب (من هنا نبدأ)، يطلب قلب الأوضاع رأساً على عقب، والبدء من جديد. والجديد عنده اشتراكية خيّرة نيّرة تكفل الخير والعدل، وتأخذ بأي نظام من شأنه رفع الإنسان خلقاً وديناً ومادة. وسيد قطب يقول للعالم العربي: كفاكم تخبطاً. لا حل لمشاكلكم إلا بالرجوع إلى الوراء، إلى الوراء إلى أن تصلوا إلى الفترة التي حكم فيها أبو بكر وعمر – تلك فترة خيّرة نيّرة علينا أن نعيدها – ومحمد خالد في أكثر من مرة يقول: بالله عليكم لا تجادلونا بأبي بكر وعمر، فتلك فترة لن تعود. كتابان يجدر بكل عربي أن يقرأهما بتمعن ورويّة. وغداً – ومستعد أن أراهن – إذا تُرجم الكتابان، أو روجعا، بشكل يضعهما أمام أعين الغرب، سيشير الغرب إلى كتاب سيد قطب، ويقول: هؤلاء هم العرب، يسيرون إلى الوراء!».

قبل أن أشرع في مناقشة ما قال، يجب عليّ أن أدقّق في معلومة جاءت في أول كلامه. صحيح أن خالد محمد خالد قُدم لمحاكمة ثم بُرئ، لكن كتابه لم يتعرض للحرق، بل صودر من قبل النيابة العامة قبل تقديمه للمحاكمة. والظاهر أن واقعة مصادرة كتابه في مصر ضخمتها شائعة في لبنان إلى واقعة حرق لنسخ الكتاب بالنار في مصر!

هذا الكتاب صدر في شهر فبراير (شباط) 1950، ومرّ عليه هذا الشهر، والشهران اللذان تلياه (مارس/ آذار، وأبريل/ نيسان) بسلام. وفي أول شهر مايو (أيار) منذ هذا العام، خاطب رئيس لجنة الفتوى بالجامع الأزهر النيابة العامة بكتاب (أو خطاب) تضمن مجموعة من الاتهامات الدينية لهذا الكتاب، وطالبها بالتحقيق مع مؤلفه وبمصادرة الكتاب.

استناداً إلى كتاب رئيس لجنة الفتوى بالجامع الأزهر، أجرت النيابة العامة تحقيقات مع المؤلف، واتهمته من جانبها بتهمتين سياسيتين: الأولى، الدعوة إلى الشيوعية، والأخرى الدعوة إلى كراهية نظام الحكم. وصادرت الكتاب في 7 مايو.

واستناداً إلى كتاب رئيس لجنة الفتوى بالجامع الأزهر، وإلى كتاب النيابة العامة وإلى تحقيقاتها معه وإلى قرارها بمصادرة الكتاب، عُقدت محاكمة للمؤلف خالد محمد خالد بمحكمة القاهرة الابتدائية. وفي هذه المحاكمة بُرّئ من التهم الدينية والتهمتين السياسيتين، وأُفرج عن الكتاب، وذلك يوم السبت 2 مايو 1950.

الكتاب انتفع من مشكلته مع الجامع الأزهر ومع النيابة العامة، وانتفع من عقد محاكمة له ولمؤلفه في ذلك الشهر، شهر مايو؛ إذ إنه بعد تبرئة المحكمة للكتاب ولمؤلفه من التهم الموجهة لهما في أواخر شهر مايو طُبع في الشهر الذي يليه، وهو شهر يونيو (حزيران)، طبعة ثانية. وفي الشهر الذي يلي هذا الشهر، وهو شهر يوليو (تموز)، طُبع طبعة ثالثة. وفي شهر سبتمبر من ذلك العام، عام 1950، طُبع طبعة رابعة.

المعلومة الثانية التي تستحق التدقيق، هي قول أنيس فريحة: «وسيد قطب يقول للعالم العربي»!

سيد قطب بحكم أنه مصري، فهو يخاطب الشعب المصري. وبتحديد أدق، يخاطب المسلمين في هذا الشعب حصراً، ويخاطب المسلمين في العالم العربي، ويخاطب المسلمين في غير العالم العربي.

سيد قطب في أول صفحة من كتابه قال: «ولكننا هنا في مصر، وفي العالم الإسلامي كله، لا نراجع رصيدنا الروحي، وتراثنا الفكري، قبل أن نفكر في استيراد المبادئ والخطط، واستعارة النظم والشرائع، من خلف السهوب ومن وراء البحار!». إنه يتوجه بخطابه الإسلامي مباشرة إلى مصر وإلى العالم الإسلامي.

وفي آخر سطر من كتابه قال: «والظرف اليوم مهيأ على مولد الكتلتين الإسلاميتين الضخمتين في إندونيسيا وباكستان، وعلى يقظة العالم العربي في الشرق والغرب».

كتاب سيد قطب صدر عام 1949، وكان ما يزال في بعثته التدريبية في أميركا. وكانت إندونيسيا قد استقلت عن هولاندا عام 1945. وباكستان نشأت كدولة مستقلة عن بريطانيا ومنفصلة عن أمها الهند عام 1947.

فكلمة «مولد» كان يشير بها إلى هذين الحدثين اللذين أذنا عنده بولادة كتلة إسلامية في إندونيسيا وباكستان، تكون تكتلاً دولياً ثالثاً في مواجهة المعسكر الشرقي الشيوعي والمعسكر الغربي الرأسمالي، اللذين تمخضا عن الحرب العالمية الثانية بعد نهايتها.

في العام الذي صدر فيه كتاب سيد قطب، كان عدد سكان إندونيسيا 74.5 مليون نسمة، وكان عدد سكان باكستان 75.7 مليون نسمة. ولتكثير عدد المسلمين ذكر «العالم العربي» الذي كان لا يتجاوز عدد سكانه 35 مليون نسمة. ولنلحظ أنه لم ينص على أن العالم العربي كتلة إسلامية ثالثة؛ وذلك لأن العديد من دوله في أواخر الأربعينات الميلادية لم تكن دولاً مستقلة. وقد استعمل كلمة «يقظة»، ويعني بها أنها ما تزال مستعمرة، وأنها في سبيل الحصول على استقلالها من دول استعمارية.

سيد قطب في ذلك السطر يعتقد – خاطئاً – أن العالم الإسلامي يشكل وحدة جغرافية، وقد اعتد بعدد سكان كتلته الإسلامية، فاعتبرها كتلة إسلامية ضخمة، مع أنها كانت كتلة سكانية ضئيلة بالمقارنة مع عدد سكان المعسكر الشرقي الشيوعي، وعدد سكان المعسكر الغربي الرأسمالي. فعدد سكان العالم الإسلامي في ذلك التاريخ كان 185.2 مليون نسمة، وعدد سكان ذينك المعسكرين في ذلك التاريخ كان 700 مليون نسمة.

سيد قطب في سنوات إعداده لكتابه كان لديه تنفة بسيطة عن مفهوم الكتلة الإسلامية الذي راج في باكستان عام 1947، ودعا إليه ألمع سياسييها. وللحديث بقية.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد