: آخر تحديث

الشعر وندوب العالم

2
2
2

في عالمٍ يضجّ بالصراعات، ويئنّ تحت وطأة الحروب، والانقسامات، والأزمات البيئية والاقتصادية والوجودية، يبدو أن العقلانية وحدها لم تعد كافية لتهدئة هذا الضجيج، وفي هذا السياق، يبرز الشعر بوصفه وسيلة وجدانية تتجاوز البراغماتية، وتنفذ إلى عمق النفس البشرية، فتمنحها معنى، وتعزيها، وتوقظ فيها إحساسًا غائبًا بالانتماء والجمال والرحمة، الشعر، إذن، ليس ترفًا لغويًا ولا ترفيهًا أدبيًا، بل ضرورة إنسانية تسهم في معالجة مشكلات العالم من زاوية وجدانية تنقص صيغ الحلول التقليدية.

إن أولى مشكلات العالم اليوم تكمن في العزلة الروحية التي تخلقها الفردانية المتطرفة والتكنولوجيا الباردة، وهنا يأتي الشعر ليربط الإنسان بجذوره العاطفية، ويعيد له صلته بالعالم الداخلي، ويوسّع من قدرته على التعاطف مع الآخر، فقصيدة عن طفلة تائهة بين أنقاض يتمها، أو طفلٍ يلوّح بيديه ويصفع الهواء من قارب هجرة في المتوسط يوشك على الغرق، قادرة على خلق وعيٍ أكثر عمقًا من عشرات التقارير الإخبارية، فالشعر لا يُلقي الحقائق الجافة بل يُجسّدها، ولا يصف الألم فقط بل يعيشه ويُشعر به، كما أن الأزمات البيئية، وهي من أخطر ما يهدد حاضر الإنسان ومستقبله، مازالت الحملات الإعلامية وحدها عاجزة عن تحريك الضمير الجمعي تجاهها، غير أن الشعر، بلغة الطبيعة ومجازاتها، يستطيع أن يعيد رسم العلاقة بين الإنسان وكوكبه، قصائد مثل تلك التي كتبها محمود درويش في حضرة الأرض والماء والنبات، أو حتى الصحراء عند الثبيتي تثير شعورًا بالقداسة تجاه الطبيعة، وتدفع القارئ للتأمل في مسؤولياته الأخلاقية إزاء البيئة، لا بوصفها مورداً، بل بوصفها بيتًا وروحًا.

من جانب آخر، يساهم الشعر في مواجهة ظاهرة العنف والكراهية، فالكلمة الشعرية المخلصة قادرة على تفكيك الخطاب العدائي، وتقديم الآخر ككائن هشّ يشبهنا، إنّ القصيدة التي تصف ملامح عدوك وهو يحضن طفلته النائمة، أو ينتظر خبزه في طابورٍ طويل، تقلب المعادلة النفسية، وتفتح بابًا للسلام يبدأ من الداخل، ففي القصيدة، يصبح العدو إنسانًا، والخصم صدى لصراخك الداخلي، مما يجعل التسامح ممكنًا.

ولعل أجمل ما يقدمه الشعر كحلّ وجداني، هو تلك المساحة الوجدانية التي لا تفرض الحلول بقدر ما تهيئ القلوب لتقبلها فالشعر لا يدّعي قدرته على وقف الحروب، أو إنهاء الفقر، أو معالجة الأوبئة، لكنه يزرع في القلوب بذور الإنصات، والحنو، والتأمل، وكلها شروط نفسية أولى لأي تغيير حقيقي.

في النهاية، ربما لا يستطيع الشعر أن يغيّر العالم بجرة قلم، لكنه قادر حتما على أن يغيّر الإنسان في قلب العالم، والإنسان هو أصل كل مأساة، تمامًا كما أنه أصل كل خلاصٍ منها..


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد