: آخر تحديث

هولندا: سبينوزا وسوق الأسهم... بداية العصر الليبرالي

10
8
9

تعرضت عائلة الفيلسوف سبينوزا للملاحَقة من قبل محاكم التفتيش في البرتغال. العائلة اليهودية وجدت ملجأ لها من المطاردات في أمستردام، عاصمة التسامح والأفكار الحرة. سبينوزا نفسه تعرض للنبذ من قبل اليهود بسبب أفكاره الجريئة في نقد اللاهوت، التي كان أبرزها في كتابه الشهير: «علم الأخلاق». ومع هذا، فإنه لم يكن مضطراً لمغادرة أمستردام التي، على عكس المدن الأوروبية الأخرى، رحَّبت بوجوده. امتهن صناعة العدسات، وخارج ساعات العمل خصَّص وقته للقراءة والكتابة.

لم يكن سبينوزا المثقف الوحيد الذي لجأ إلى العاصمة الهولندية للتعبير عن أفكاره بحرية. الفيلسوف الفرنسي الشهير ديكارت أيضاً عاش في أمستردام معظم حياته، ونشر مؤلفاته هناك. في عاصمة بلاده، باريس، لم يكن قادراً على إنتاج أفكاره القائمة على الشك. أفكاره التي غيرت العالم ترعرعت جذورها الأولى في التربة الهولندية. البروتستانت المطرودون من المدن والقرى الأوروبية وجدوا أيضاً في أمستردام الملاذ الآمن. ورغم وصولهم إليها مضطهدين مفلسين، فإنه لم يمضِ وقت طويل حتى بدأوا تجارتهم وكوَّنوا منها ثروات.

الحرية الفكرية والدينية أكسبت أمستردام سمعة عاصمة التسامح. ومع أجواء الحرية الفكرية ازدهرت التجارة، ورأى فيها الأثرياء مكاناً مثالياً للعيش. في المدن الأوروبية المتسخة والمتخلفة عمرانياً، كانت الطبقة الدينية نخبتها الفكرية، وعزلت نفسها عن بقية المجتمع، وكانت العواصم واجهات للأباطرة. نسبة التمدن في تلك العواصم لم تتجاوز الـ9 في المائة. أما في أمستردام، فقد وصلت إلى 56 في المائة. وفي وقت كانت فيه تلك العواصم خاملة اقتصادياً، ضمَّت هولندا مراكز تجارية تتنافس مع بعضها.

التجار، والمحامون، والمصرفيون، والمهندسون، والفنانون، وأصحاب المدن، كلهم اجتمعوا في تلك المدن المزدهرة. في المدن الهولندية اجتمعت الحرية الشخصية والفكرية، التجارة المفتوحة، والشوارع النظيفة والباحات الأنيقة. البحث عن الكسب الشخصي لم يكن، للمرة الأولى في أوروبا، فعلاً آثماً أو غير أخلاقي، بل كان مرغوباً. وللمرة الأولى ظهر من نعرفهم برواد الأعمال، وبزغ رجال أعمال من نوع جديد: من تجار مصانع الأجبان إلى تجار البهارات والتوابل الهندية والإندونيسية. «سوق الأسهم» اختراع هولندي، والشركة «الهولندية الهندية الشرقية» هي الشركة المساهمة الأولى في العصر الحديث في «بورصة أمستردام».

بهذه الصورة الزاهية يرسم الكاتب فريد زكريا صورة هولندا، ويجعلها الاستثناء عن أوروبا في القرن السادس عشر. وهي من أولى الثورات في كتابه: «عصر الثورات». وهي ثورة فكرية ودينية وتجارية، وليست ثورة سياسية. نظام حكمها لم يعرف حكم الإمبراطور المركزي السائد في أوروبا، بل تمتعت الأقاليم السبعة التي تشكلها بكثير من السلطة، وكانت قادرة على استخدام «الفيتو» ضد التشريعات القومية التي لا تعجبها. الطريقة الوحيدة لكي تعمل هذه الأقاليم السبعة هي عبر آليات التعاون والتسويات.

أمستردام القرن السابع عشر هي نيويورك القرن العشرين. كسرت، كما يقول أحد المؤرخين في ذلك الوقت، القواعد بين الرجال والنساء، والسادة والعبيد، والجنود والمدنيين، والنبلاء والعاديين. النمو الاقتصادي قبل هولندا شيء، وبعدها شيء آخر. في خريطة التاريخ البشري، يمثل النمو الاقتصادي خطاً مسطحاً في الأسفل لأن التجارة كانت عبارة عن الاستيلاء ونهب الثروات. مع التجارة الحرة والانفتاح الاقتصادي واختراع السفن التي تنقل البضائع، تغير هذا الخط، وبدأ في الصعود من ذلك الحين.

التحول الكبير، مهما كان ناجحاً، كان له معارضون. المحافظون دينياً عارضوا المتسامحين. القوميون عارضوا الليبراليين. المحتكرون عارضوا دعاة التجارة الحرة. سكان مدن الداخل الراكدة عارضوا سكان مدن الساحل المزدهرة. النوستالجيون عارضوا المستقبليين. نشب صراع حول الفكرة الليبرالية. هناك من رآها دعوة لعالم أفضل، وآخرون عدوها بذرة تدمير لكل ما عرفوه. تشكل هذا الصراع سياسياً بين حزب الولايات (The States Party) الليبرالي، وحزب أورانج (The Orangist Party) القومي.

النجاح يجذب الحاسدين والأعداء. وهذا ما حدث لهولندا التي كانت تعيش عصرها الذهبي رغم الخلافات السياسية داخلها. أكثر مَن كرهها هو لويس الرابع عشر، ملك فرنسا. رأى الهولنديين متعجرفين. وجودهم يهدد حُكمه، وتحولت أمستردام إلى ملجأ للهاربين من بلاده. 150 ألفاً هربوا من أرض الاضطهاد الديني إلى أرض التسامح، من أرض الإقطاع إلى أرض التجارة. لم يحتمل لويس الرابع عشر هذا المشهد، وقرر غزوها في عام 1672.

سقطت المدن تلو الأخرى، وقرر الهولنديون المقاومة عبر تحطيم السدود وإغراق الأراضي وبناء الخنادق. مقاومة أشبه بإطلاق النار على أقدامهم. دمروا أسباب نجاحهم. تُعَد هذه الحرب نهاية العصر الذهبي الهولندي، ولكن لويس الرابع عشر ارتكب غلطة كبيرة، وهي أنه لم يدرك أن ويليام الثالث، أمير أورانج، الذي عاد إلى الواجهة بضغط شعبي وتم تنصيبه كقائد عسكري، سيتحول لاحقاً إلى ملك بريطانيا، وينقل بذور الليبرالية ليزرعها في البلد الذي تحول إلى قوة عظمى. التجربة الهولندية المحدودة أصبحت أكبر وأوسع مع القوة الإنجليزية الصاعدة، وهذا ما سأتحدث عنه في المقال المقبل.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد