منيرة أحمد الغامدي
في ظل تفاقم الأزمات البيئية والتغير المناخي لم تعد حماية البيئة ترفًا فكريًا أو خيارًا مؤجلًا بل ضرورة حتمية تفرضها استدامة الموارد وصحة الإنسان.
وتأتي إعادة التدوير كأحد أبرز الحلول العملية التي تجمع بين الوعي الحضاري والأثر البيئي والاقتصادي عبر تقليص النفايات والحد من الاستنزاف وإعادة تشكيل العلاقة بين الإنسان والطبيعة.
إعادة التدوير ليست مجرد عملية فنية لتحويل النفايات إلى منتجات جديدة بل هي فلسفة تعكس نضج المجتمعات والتزامها بمسؤولية جماعية، وتشير تقارير دولية إلى أن العالم ينتج أكثر من ملياري طن من النفايات الصلبة سنويًا يُعاد تدوير أقل من 20% منها رغم أن عمليات التدوير تُسهم في خفض انبعاثات الكربون بنسبة تصل إلى 60% مقارنة بالإنتاج من المواد الخام وتسهم في حماية المياه والغابات والموارد الطبيعية.
وتشير الدراسات الاقتصادية إلى أن كل دولار يُستثمر في قطاع التدوير يمكن أن يُولّد ما بين 3 إلى 4 دولارات من العائدات المباشرة وغير المباشرة من خلال تقليل كلفة المعالجة البيئية وتقليص الفاقد وخلق فرص عمل مستدامة، كما يُتوقع أن يوفّر الاقتصاد الدائري عالميًا ما يزيد على 6 ملايين وظيفة بحلول عام 2030، مما يجعله أحد محركات الاقتصاد الأخضر.
وقدمت دول عديدة نماذج ملهمة في هذا المجال، ففي ألمانيا تتجاوز نسبة إعادة التدوير 65% اعتمادًا على نظام فرز دقيق يشمل خمس حاويات حسب نوع النفايات إلى جانب نظام استرداد نقدي يحفز المواطنين على إعادة عبوات المشروبات لاستخدامها مجددًا.
أما سويسرا فتبنت سياسة «الملوّث يدفع» حيث تُفرض رسوم على الأكياس غير المفروزة ما يدفع السكان للفرز الدقيق، وتوفر مراكز تجميع شاملة وتدرّس مفاهيم الاستدامة في المدارس ما أسهم في تجاوز معدل التدوير 50% وانخفاض النفايات المدفونة إلى نسب ضئيلة.
وفي السويد تجاوزت الدولة المفهوم التقليدي للتدوير فباتت تستثمر في تحويل النفايات غير القابلة للتدوير إلى طاقة تُستخدم في التدفئة وتوليد الكهرباء، ونتيجة لهذا الابتكار أصبحت السويد تستورد نفايات من دول أخرى لتغذية منشآتها.
أما كوريا الجنوبية فاعتمدت منظومة متكاملة تشمل فرزًا منزليًا إلزاميًا وأنظمة مراقبة رقمية وغرامات صارمة ما أدى إلى خفض النفايات المدفونة بنسبة تجاوزت 80%. وفي القارة الإفريقية تبرز رواندا كنموذج استثنائي بعد أن حظرت الأكياس البلاستيكية منذ عام 2008، وخصصت يومًا شهريًا للعمل البيئي الجماعي مما جعل العاصمة كيغالي من أنظف مدن القارة.
ورغم هذه النجاحات تواجه منظومات التدوير في بعض الدول تحديات حقيقية مثل ضعف البنية التحتية في المدن النامية وغياب الحوافز الاقتصادية للمستهلك إلى جانب محدودية الوعي البيئي في بعض الشرائح.
كما يشكّل غياب التكامل بين الجهات الحكومية والقطاع الخاص عائقًا أمام بناء منظومات تدوير فعالة مما يستدعي استراتيجيات متقدمة وشراكات عابرة للقطاعات.
أما في المملكة العربية السعودية فتسير الجهود نحو تأسيس منظومة بيئية متكاملة ضمن مستهدفات رؤية 2030 وذلك عبر رفع معدل إعادة التدوير من 5% إلى 35%، وأُنشئت الشركة السعودية الاستثمارية لإعادة التدوير (SIRC) عام 2017 كمملوكة لصندوق الاستثمارات العامة لقيادة تطوير القطاع ورفع نسبة تحويل النفايات بعيدًا عن المرادم إلى 85% بحلول 2035.
ويُعد التوسع في مبادرات التدوير جزءًا من التحول الوطني الذي تشهده المملكة حيث تتكامل هذه الجهود مع برامج نوعية مثل جودة الحياة والاقتصاد الدائري للكربون، ومبادرة السعودية الخضراء مما يعزز من مكانة المملكة في التصنيفات البيئية العالمية ويجعلها لاعبًا محوريًا في التحولات البيئية الإقليمية.
وتأسس كذلك المركز الوطني لإدارة النفايات (موان) لتنظيم القطاع وتطوير السياسات وتحفيز الاستثمارات في التدوير إلى جانب مبادرة فرز النفايات من المصدر التي تنفذها وزارة الشؤون البلدية والقروية والإسكان في عدد من أحياء الرياض وجدة كمبادرة مجتمعية توعوية.
وتشمل الخطط السعودية إطلاق مناطق صناعية متخصصة لإعادة التدوير ودعم إدماج مفاهيم الاستدامة في المناهج التعليمية إضافة إلى برامج تدريبية ومبادرات شبابية بيئية تكرّس ثقافة إعادة الاستخدام وخلق فرص نوعية في مجال الاقتصاد الدائري وهو ما يعزز من مشاركة الأجيال الجديدة في صياغة مستقبل مستدام.
ولا شك أن نجاح هذه المبادرات يتوقف بشكل جوهري على مستوى الوعي البيئي داخل المجتمع فالسلوكيات الفردية كفصل النفايات وتقليل استخدام البلاستيك والحرص على إعادة الاستخدام تشكل اللبنة الأولى في بناء اقتصاد دائري، ومن خلال المدارس والمساجد ووسائل الإعلام يمكن تحويل الثقافة البيئية إلى ممارسة مجتمعية شاملة.
وفي العمق تستند هذه الرؤية البيئية إلى قيم أصيلة في المجتمع الإسلامي حيث تؤكد الشريعة على أهمية التوازن في استهلاك الموارد وتنهى عن الإفساد في الأرض، وقد ورد في القرآن الكريم: «ولا تُفسدوا في الأرض بعد إصلاحها»، وهو توجيهٌ يحمل في طيّاته مسؤولية أخلاقية تُلزم كل فرد بحماية ما وُهب له من نعم.
وبالنظر إلى ما بعد 2035 فإن الرؤية الطموحة لا تقتصر على رفع معدلات التدوير بل تمتد إلى تبني نموذج الإنتاج المسؤول من المنبع عبر تشجيع الصناعات التي تعتمد على تصميم منتجات قابلة للتدوير والتفكيك وإعادة الاستخدام بما يُعرف بـتصميم دورة الحياة المستدامة وهي مرحلة متقدمة في مسار التحول البيئي.
وفي المحصلة لم تعد إعادة التدوير مجرد ممارسة بيئية بل هي رهان على المستقبل ونهج يعكس حضارة المجتمعات ومدى إدراكها لمسؤولياتها تجاه الكوكب، فكل منتج يُعاد تدويره يمنح الحياة دورة جديدة وكل مجتمع يتبنى هذه الثقافة يضع لبنة في بناء مستقبل مستدام.