: آخر تحديث

التكفير والسبُّ والتطبير.. ثلاثي الخراب

4
4
4

نحن أمام مشهدٍ فظيعٍ، تحولت المناسبات الدينية إلى حلبات صراع، فما عادت مِن تقاليد طائفة لذاتها، تمارسها مِن قرون بهدوء، إنما أصبحت مناكفات على الأرض وفي الفضاء. حدث في محرم هذا العام أنَّ شاعراً ألهبَ جمهورَه بالسّب والشّتم للمعتبرين عند المذهب الآخر، قابله نقيضه بتوزيع الحلوى في الأول مِن الشَّهر، على اعتبار أنَّه رأس السَّنة الهجريَّة. طُرحت المقابلة قضيةَ رأي عام، فربحتها الفضائيات برامجَ جاذبة للمشاهدين، وهي قضية فعل وردِّ فعل آنية، لا علاقة لها بمجريات التَّاريخ، فالتّاريخ شيء آخر. في هذه الأجواء انطلقت دعوةٌ مليونيّة للتطبير، وارتفعت نسب التَّكفير في برامج «بودكاست» وغيرها.
بهذا صارت دعوة محسن الأمين (ت: 1954) مِن دِمشق، وهبة الدِّين الشَّهرستاني (ت: 1967) مِن بغداد إلى التعقل في الممارسات الطُّقوسيّة، باطلةً، ولو أظهرا اليوم دعوتيهما لنقض عليهما الجمهور المخدَّر بالكراهية، فمشهدٌ ضارب رأسه بالقامة، وجالد ظهره بالسَّلاسل، ينظر للآخر، غير المتظاهر بالحزن، عدواً. لذا، يواجهه بالسّبّ والإهانة، لأنّه يعتقد أنّ البلاد بلاده، لا وجود لغيره عليها. يقابله الآخر بردِّ فعلٍ بالتَّكفير، وترى العقلاء، مِن الطَّائفتين، في «حَيص بيص» مِن أمرهم.
كتب ابن بحر الجاحظ (ت: 255هـ) في رسالة «النَّابتة» مُعظماً مقتلي عثمان بن عفان (35ه) والحُسين بن عليّ (61هـ)، كما ذكر مقاتل الآخرين، لكنَّ هاتين الفاجعتين أثارتا الأحزانَ وبقيتا تؤرقان الأجيالَ، حسب ما فهمنا مِن رسالته الموجهة إلى أحد قضاة وقته. والجاحظ عندما عادل بين الحدثين انطلق مِن الإنصاف الذي يراه، وهو أديب ومتكلم معتزليّ. بعده بقرون قال ابن تيمية (ت: 728هـ): «مِن المصائبِ العظيمةِ فإِنَّ قتلَ الحُسينِ، وقتلَ عُثمانَ قبلَهُ: كَانَا مِنْ أَعظمِ أسبابِ الفِتنِ في هذه الأمَّةِ، وقتلتهما مِن شرارِ الْخَلْقِ عندَ اللَّهِ» (مجموع الفتاوى).
لا أظن أنّ المتصارعين في حلبة الطّائفيَّة اليوم، قد قرأوا رسالةَ الجاحظ ولا فتاوى ابن تيمية، فأخذا يقابلان عثمان بالحسين، وكأنَّ الحقّ في قتل الأول، والباطل فقط بقتل الثّاني، وبالعكس، بل تصاعد الخطاب إلى تبادل التّهم، ليس أحدهما يتهم الآخر، فهذا لم يثر جمهوريهما، إنما نبشوا الماضي، فأشاروا إلى عليّ بن أبي طالب (قُتل: 40هـ) بقتل عثمان، وهم يحرصون على فقه ابن تيمية تماماً، لكنْ لا يعجبهم قوله: «وكانَ فِي جهَّالِ الفريقَيْنِ مَن يظنُّ بِعلِيِّ وعثْمانَ ظنوناً كاذبة، برَّأَ اللَّهُ مِنهَا علِيّاً وعُثمانَ: كانَ يظنُّ بعلِيٍّ أَنَّهُ أَمر بِقَتلِ عُثمان، وكانَ علِيٌّ يَحلِفُ، وهو البَارُّ الصَّادقُ بِلا يمينٍ أَنَّه لَم يقتُله، ولا رضي بقتلهِ، ولم يُمالِئ على قتلهِ، وهذا معلومٌ بلا ريبٍ مِن علِيٍّ رضي اللَّه عنه» (مجموع الفتاوى).
بالمقابل يتقيد الطَّرف الآخر بأقوال الشّيخ المفيد (ت: 413هـ)، وهو أحد أول المراجع وأبرزهم لدى طائفته، لكنه لا يُصدق ولا يحب اعتباره لملفق حكاية «كسر ضلع الزَّهراء» صاحب «أراجيف» أي فتن، وأنَّ الأئمة لم يُقتَلوا جميعاً، لا علي بن الحُسين، ولا محمد الباقر، ولا جعفر الصَّادق، ولا محمد الجواد، ولا علي الهادي، ولا الحسن العسكريّ، ويشك في قتل الرّضا (المفيد، تصحيح الاعتقاد). فإذا صدقَ قول المفيد سيُغلق «ديوان الكسبة» باسم الحُسين، والعبارة لحسين النّوريّ (ت: 1902) في «اللؤلؤ والمرجان في آداب أهل المنبر»، ستبور تجارة العزّ الذي يمرح فيه ويرتع.
 لا شأن للمكفِّرين ولا السَّبابين ولا المُطبِّرين بالعمران، بل العكس يعتبره «جهال الفريقين» إفلاساً لتجارتهم. إنها معضلة كبرى عندما يُسَخر النّفوذ لعمارة الخراب، وعندما يسود الجهل ثقافةً، فما يجري فضيحة حضاريَّة، وعندما يتمكن الجاهل يرى العلمَ جهلاً، والوطنَ وما به طوعَ جهله. للإمام محمَّد بن إدريس الشّافعي (ت: 204هـ) ما يعبر عن الحال: «مِحنُ الزَّمانِ كثيرةٌ لا تنقضي/ وسرورُهُ يأتيكَ كالأعيادِ/ مَلكَ الأكابرَ فاسترق رِقابهم/ وتراه رقّاً في يدِ الأوغاد» (الدِّيوان)، وهذا لا يريد وطناً.

*كاتب عراقي


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد