: آخر تحديث

بالعودة إلى اتّفاقيّة أوسلو (1)

0
0
0

في كلّ سجال يدور حول الحرب والسلام تُستحضر اتّفاقيّة أوسلو في 1993 للتدليل على استحالة السلام. ذاك أنّ الاتّفاقيّة المذكورة امتحنت الرغبة الإسرائيليّة فيه فأفشلتْها، وامتحنت الرغبة الفلسطينيّة (والعربيّة) فأكّدتْها.

هكذا باتت العودة إلى تلك الاتّفاقيّة شرطاً لتقويم بعض التصوّرات السهلة التي تتعدّاها لتلد استنتاجات تتعلّق بالسلام والحرب، وكي تبرّر تالياً عدم التورّط في أيّة مراجعة نقديّة.

والحال أنّ إلحاح المراجعة محكوم بهدف آخر لا يخلو من العمليّة: ذاك أنّنا، في عموم المشرق، لم نعد نملك ترف القول إنّنا لا نريد السلام، حتّى لو كان صعباً جدّاً، وحتّى لو كانت الحجّة أنّ إسرائيل لا يمكن أن تقدم عليه.

لقد كانت أوسلو ذروة إنجازات السلام الممكن. لكنّ كونه السلام «الممكن» لا يلغي نقصه. ولئن انتمى النقص هذا إلى التعثّر الذي تشهده البدايات عامّةً، فإنّ ما يضاعفه شموله طرفين يختلّ بينهما توازن القوى كلّيّاً، وينضح تاريخ علاقتهما بانعدام ثقة كامل.

لكنْ رغم نواقص أوسلو الكبيرة، وأهمّها دفع مسائل «الحلّ النهائيّ» إلى مستقبل غامض، والقفز فوق قضايا أساسيّة تعاند التأجيل، فلو تُركت الأمور لتوازن القوى المحض، لقُدّم للطرف الفلسطينيّ ما يقلّ كثيراً عمّا قدّمته الاتّفاقيّة. ذاك أنّ منظّمة التحرير الفلسطينيّة وصلت إلى الاتّفاقيّة خائرة القوى بعد خروجها من الحرب الأهليّة اللبنانيّة المكلّلة بغزو إسرائيليّ أقصيت بنتيجته منظّمة التحرير إلى تونس، وبحرب سوريّة شرسة ومتواصلة لم تكتف بإنهاك المنظّمة، بل دفعتها، تحت وطأة التنافس الدمويّ مع حافظ الأسد، إلى ارتكاب أحد أسوأ أخطائها، أي الوقوف مع صدام حسين في غزوه الكويت صيف 1990. ونعلم أنّ ما تأدّى عن الفعلة هذه لم يكن أقلّ من حرمان المنظّمة دعمَ دول الخليج الكبير، الماليّ منه والسياسيّ. أمّا عالميّاً، فكان انهيار الاتّحاد السوفياتيّ، «حليفنا الأكبر»، سبباً آخر لتوسيع الفارق النوعيّ الهائل أصلاً. وفي المقابل، ففضلاً عن شراكة إسرائيل في التحالف الذي انتصر في الحرب الباردة، عاد عليها انهيار الاتّحاد السوفياتيّ بمليون مهاجر.

أمّا المكسب الوحيد في يد الفلسطينيّين، أي «انتفاضة الحجارة» أواخر 1987، فكان، على أهميّته، أشدّ تواضعاً بكثير من أن يوازن تلك التحوّلات جميعاً.

وهذا الفارق في القوّة، معطوفاً على ضعف الثقة المتبادل، العميق والمزمن، وعلى التكوين المُهَستَر بالأمن الذي يستولي على الإسرائيليّين، أكسب العمليّة السياسيّة طابعاً أبويّاً، كريهاً ومنفّراً، مفاده أنّ الإسرائيليّ القويّ لم يتوقّف عن إخضاع الفلسطينيّ الضعيف للامتحان والمراقبة.

مع هذا وفّرت أوسلو بدايات يمكن الرهان، ولو مبدئيّاً فقط، على إمكان إفضائها إلى نهايات سعيدة. فبسببها باتت هناك هويّة وجواز سفر فلسطينيّان، وسلطة مرشّحة نظريّاً لأن تغدو دولة، وعودة عشرات آلاف الفلسطينيّين إلى فلسطين ممّن لم يكفّ عددهم عن التعاظم. وبين 1993 والانتفاضة الثانية في 2000، حظي السكّان الفلسطينيّون بدرجة أكبر من الحكم الذاتيّ في المناطق التي حدّدتها الاتّفاقات، وبالطبع اعترفت الولايات المتّحدة والاتّحاد الأوروبيّ، فضلاً عن إسرائيل، بمنظّمة التحرير «ممثّلاً شرعيّاً» للشعب الفلسطينيّ، وكان ياسر عرفات، بدوره، قد اعترف بدولة إسرائيل وأدان الإرهاب.

أمّا غزّة تحديداً فكانت دائماً في قلب ما يجري وما يُحاوَل. فعمليّة أوسلو إنّما ابتدأ شقّها التنفيذيّ للحكم الذاتيّ بغزّة وأريحا، تبعاً لما عُرف بـ»اتّفاق القاهرة، 1994». وفي أواخر 1998 حضر الرئيس الأميركيّ بيل كلينتون إليها لافتتاح مطار قُرّر إنشاؤه في رفح جنوباً، كي يكون بديلاً عن مطار العريش المصريّ وعن المطارات الإسرائيليّة التي يُضطرّ الفلسطينيّون إلى استخدامها. وكان لحضور كلينتون وتولّي بلدان عدّة (مصر والسعوديّة واليابان وإسبانيا وألمانيا وهولندا) تمويل المطار أن وفّرا دعماً سياسيّاً للمشروع في مواجهة المبالغة الإسرائيليّة في التضييق والإعاقة.

ولم يكن هذا التوجّه السياسيّ الجديد في الدولة العبريّة، أو الشعبيّةُ العريضة التي اكتسبها «معسكر السلام»، مجرّدين من تحوّلات بدأت تتعرّض لها الحياة الثقافيّة والفكريّة الإسرائيليّة منذ الثمانينات. فقد نشأت مدرسة «المؤرّخين الجدد»، وفق التسمية التي سكّها أحدهم، وهو بِني موريس، عام 1988، ضامّةً أيضاً إيلان بابيه وآفي شلايم وتوم سيغيف وشلومو ساند وسيمحا فلابان...، وهؤلاء أعادوا النظر بالروايات التأسيسيّة لدولتهم وبمحاولات طمس الإبادة التي حلّت بالفلسطينيّين في 1948. كما ظهرت، في علم الاجتماع والعلوم الإنسانيّة، اتّجاهات نقديّة للصهيونيّة ولبُعدها الاستعماريّ جسّدها مثقّفون كباروخ كيمرلينغ وأوري رام وغيرشون شافير وسواهم. وعلى العموم، ولدت في التيّار العريض للثقافة الإسرائيليّة الظاهرة التي اصطُلح على نعتها بـ»ما بعد الصهيونيّة»، مُشكّلةً الذراع الثقافيّ لعمليّة السلام.

وفي تموضُعها العالميّ والفكريّ بدت أوسلو جزءاً من مناخ ما بعد الحرب الباردة ومن موجة الطلب على الديمقراطيّات وتسوية الحروب التي عمّت العالم. هكذا جاء الانضواء الفلسطينيّ والعربيّ فيها، وعلى نحو غير مألوف في التاريخ العربيّ الحديث، متساوقاً مع وجهة كونيّة غالبة.

لكنْ كيف اتّجهت الأمور بعد ذاك؟


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد