فجأة ومن دون مقدمات، استفاقت الخلايا العسكرية النائمة في الشمال السوري من سباتها واندفعت على نحو مباغت صوب مدينة حلب، ثاني أكبر المدن السورية. ولغاية كتابة هذه الأسطر، تشير الأنباء إلى سيطرتها على مدينة حماة، في تطور لافت يعيد المشهد السوري مجدداً إلى صناعة الحدث بعد سنوات من الهدوء الميداني الذي استعاد خلاله النظام السوري توازنه، ما عزز فرص كسر عزلته العربية ودفع أنقرة إلى إعادة حساباتها وإظهار نوع من المرونة والانفتاح على دمشق كنوع من الاعتراف الضمني بأن الرئيس السوري بشار الأسد قد فاز. كما باتت التسوية السياسية التي تضع الأسد خارج المعادلة صعبة بسبب نجاح روسيا في فرض واقع مغاير على الأرض، وتراجع الزخم الغربي عن الملف السوري، وتخبط المعارضة السورية في تصفية الحسابات فيما بينها، والانفتاح العربي على سوريا.
قبل أسابيع، جدد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان دعوته لمقابلة الأسد، لكنه تلقى نفس الإشارات من دمشق رداً على دعوته الأولى. لم تكن تلك الانعطافة الكبيرة في الموقف التركي مغرية للأسد بما فيه الكفاية، ببساطة لأنها تراعي مصالح طرف واحد وتفرض واقعاً تمليه البراغماتية التركية، التي تبحث فقط عن معالجة الهواجس الأمنية ومشاكل اللاجئين، دون أن تلبي الحد الأدنى من المطالب السورية المتعلقة بالسيادة. بطبيعة الحال، كانت دمشق ترى أنَّ خطوة التقارب لم تنضج بعد، وقد تحتاج إلى اختبار صدق النوايا حتى يمكن التجاوب معها. في ظل غياب الإشارات الإيجابية، كان من المتوقع أن يسبق فشل بغداد في عقد قمة تاريخية بين الأسد وأردوغان بالنظر إلى أرضية هذا اللقاء، التي بنيت على أساس هش.
تصريحات وزير الخارجية التركي هاكان فيدان من قبة البرلمان التركي يوم 22 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، التي تطرق فيها إلى الملف السوري معتبراً أنَّ الأسد يفتقد الإرادة السياسية ولا يريد تحريك عملية السلام في سوريا، كانت إشارة واضحة إلى أنَّ أنقرة قد طوت صفحة التقارب مع نظام الأسد، وأنَّها بدأت بالفعل التفكير في خطط بديلة. اليوم، وفي خضم الأوضاع الميدانية في الشمال السوري، يتحدث أردوغان عن مرحلة جديدة في سوريا تُدار بهدوء، ليعيد التأكيد على نفس تصريحات فيدان ويزيل الضبابية التي كانت تكتنف الموقف التركي في ظل ما يجري في شمال سوريا.
هناك من يرى أن الأسد أخطأ التقدير في رفض اليد التركية الممدودة، التي ربما كانت كفيلة بأن تؤجل الحرب الدائرة حالياً وخسارة حلب وحماة، وخلق ديناميكيات جديدة تزيد من ضعف النظام السوري. لكنها في الأساس يد ممدودة تبحث عن مكاسب على حساب المصالح السورية، وتجبره على قبول الأمر الواقع في الشمال السوري، بما يجعل التقارب فارغاً من أي مضامين. في كلتا الحالتين، فإنَّ تقارب الأسد وأردوغان من عدمه يصل إلى نتيجة واحدة: إما الخضوع للمنطق التركي أو فتح الدفاتر القديمة.
إقرأ أيضاً: ما المتوقع من ترامب في أوكرانيا وفلسطين؟
صحيح أنَّ تسارع الأحداث وسقوط مدينتي حلب وحماة بتلك السهولة عامل محفز ومغرٍ لقوات هيئة تحرير الشام يعزز الطموح ببلوغ دمشق، ومن المنطقي أن ما حدث مؤشر سيئ بالنسبة للنظام في دمشق، بما أن الهجوم قد كشف عن مدى الضعف الميداني للقوات النظامية، الذي أدى إلى حدوث اختراقات في الجبهة الشمالية دون وقوع مواجهة فعلية. لكن حسم المعركة لا يزال بعيداً، وسقوط نظام الأسد لن يكون بتلك السهولة التي قد يعتقدها البعض. لا ننسى أن الوضع في سنة 2013، عندما كانت المعارك تدور حول محيط دمشق، كان على الورق أسوأ بكثير من الوضع الراهن، وتأثير الأطراف الخارجية المتواجدة على الساحة السورية كان أقوى سياسياً ومادياً وعسكرياً. الانشقاقات التي حدثت في قلب بنية النظام ربما كانت تكفي وحدها لإجبار الأسد على التنحي والخروج من سوريا تجنباً للتصفية، ومع ذلك لم تنجح الأطراف الخارجية في قلب نظام الحكم رغم حجم الإنفاق الهائل الذي تم تخصيصه لدعم "الثوار" من أجل تحقيق مكاسب لا علاقة لها من قريب أو من بعيد بالمطالب الشرعية للسوريين. اليوم تعود نفس هذه الأطراف الخارجية لتكرار تجربة لا تؤول سوى بنتائج عكسية على كل الدول المحيطة بسوريا.
إقرأ أيضاً: كاثرين مادة دسمة للإخوان للتهجم على مصر
إذا كانت الغاية من التصعيد في سوريا هي التهيئة لمشهد جديد يكون مقدمة لمشروع تفكيك سوريا وإدارتها عبر وكلاء، فإنَّ الأحاديث عن تطلعات الشعب السوري وعن التسوية السياسية التي تنهي حمام الدماء هي مجرد ذر للرماد في العيون، وخطاب يستغبي العقول من أجل الوصول إلى الغاية. لا يمكن أن نتوقع من التغيير الذي يُفرض بقوة السلاح ما يؤسس لديمقراطية تشاركية تسمح بتداول السلطة.