تتخذ أوكرانيا من الحرب الدائرة في غزة موقفاً غريباً يتضارب مع ما تدعيه من مظلومية، حيث تقوم بمساندة إسرائيل ونهجها القائم على قتل الشعب الفلسطيني وتهجيره من القطاع، بينما المنطق يفترض أن تتخذ موقفاً معاكساً. هذا السلوك يثير استياء أنقرة التي وقفت إلى جانب كييف في كثير من المحطات على مدى السنتين المنصرمتين، منذ بداية الحرب في أوكرانيا في 24 شباط (فبراير) 2022.
تحاول تركيا تمرير الرسائل إلى أوكرانيا عبر الأقنية الدبلوماسية، وكذلك من خلال الإعلام، من أجل دعوتها إلى التخلّي عما تعتبره "نهجاً خاطئاً" تجاه الأحداث الجارية في منطقة الشرق الأوسط وفي قطاع غزة تحديداً.
ترى أنقرة أنَّ هذا النهج هو "مخاطرة كبيرة" قد تتسبّب بشكل حتمي، في زيادة منسوب الكراهية ضد كييف. وليس أيّ كراهية، وإنّما كراهية الرأي العام الإسلامي لها، وكذلك تنفير المسلمين من القضية الأوكرانية بعد أن وقف بعضهم إلى جانبها بداية الحرب.
تخشى تركيا من أن تخسر أوكرانيا بسبب هذا السلوك، فرصة تلقّي الدعم السياسي والعسكري والمالي من تلك الدول، في حمأة الحرب الدائرة على أراضيها، وفي هذا التوقيت المحرج، خصوصاً أن المساعدات الغربية بدأت تتراجع بشكل ملحوظ مما يهدّد بكارثة خسارتها الحرب بشكل حتمي ونهائي.
رجل أنقرة في كييف
وعليه، حاول الجانب التركي ممارسة محاولات من أجل التأثير على موقف كييف. استغلّت أنقرة وصول شخصية مقربة منها إلى سدّة وزارة الدفاع في أوكرانيا. تلك الشخصية هي: رستم أميروف، الذي عيّنه الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي ووافق البرلمان الأوكراني على تسميته وزيراً للدفاع بدلاً من ألكسي ريزنيكوف المتهم بالفساد.
يومها، قال زيلينسكي إنّ وزير الدفاع المقال ريزنيكوف "أمضى أكثر من 550 يوماً في حالٍ من الحرب الشاملة"، معتقداً أنّ وزارة الدفاع "تحتاج إلى نهج جديد، وأشكال أخرى من التفاعل بين الجيش والمجتمع".
لكنّ قرار زيلينسكي في حينه تقاطع مع مصلحة أخرى، إذ جاء عشية توجّهه إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، ونيته لقاء الرئيس الأميركي جو بايدن. وقام بتلك الخطوة بعد تلقيه انتقادات من الكونغرس الأميركي بسبب الفساد المستشري في كييف، كما هدّد الكونغرس بإيفاد مندوب من أجل مراقبة الإنفاق العسكري من أموال المساعدات الغربية. وقد نفّذت تهديدها قبل نحو أسبوعين، حيث وقعت مع أوكرانيا مذكرة تفاهم تهدف إلى تعزيز التعاون في مجال الرقابة على استخدام المساعدات الدولية.
إقرأ أيضاً: هكذا بدّد بوتين أحلام الغرب... واستفاد من وجود "فاغنر" في بيلاروسيا
كان الظنّ أنّ وصول أميروف إلى وزارة الدفاع قد يحقق توازناً بين المساعي البريطانية والأميركية من أجل السيطرة على الوزارة، كما يمكن في الوقت ذاته، توسيع فُرص تركيا من أجل امتلاك قرار داخل الوزارة، وذلك لأسباب عدّة:
1 - لأنّ أميروف من تتار القرم.
2 - لأنّه كان منذ العام 2014، مقرباً من زعيم تتار القرم وصديق أنقرة، مصطفى جميلوف، وعمل مستشاراً له في كييف.
3 - لأنّه يتبع الديانة الإسلامية وهذا قد يقرّبه أكثر من أنقرة.
4 - لأنّه كان حاضراً منذ العام 2022 بكلّ جولات المفاوضات مع روسيا، بما فيها تلك التي انعقدت في إسطنبول في شهر مارس (آذار)، وكذلك المفاوضات المخصصة للحبوب التي رعتها تركيا والأمم المتحدة.
سوء حسابات.. وإسرائيل أولاً
كانت أنقرة تراهن على هذه المعطيات، وتظنّ أنّها ربّما تساعد على بلوغ ذلك الهدف (التأثير من الداخل)، لكن الحقيقة كانت بخلاف ذلك.
المعلومات تفيد بأنّ وزير الدفاع الأوكراني موالٍ بشكل كلّي للولايات المتحدة وأجهزتها، ويخضع لها بشكل كامل، من خلال شخصيته التي تصفها بعض الأوساط الدبلوماسية بـ"المراوغة"، يُظهر ولاءً وهمياً لتركيا، لكنّه في الحقيقة يتصرف بناءً على التعليمات الأميركية، التي تتخذ موقفاً معروفاً من الجميع وهو تأييد إسرائيل بشكل مطلق.
إقرأ أيضاً: بوتين في السعودية والإمارات... العالم يتبدّل
وهذا يعني، بطبيعة الحال، أنّ واشنطن تفضّل المصلحة الإسرائيلية على مصلحة حلفائها في حلف الشمال الأطلسي (الناتو)، أي على حساب تركيا بصفتها أبرز حليف لواشنطن ضمن الحلف، ولا تأخذ مصالحها في الاعتبار.
استدراك تركي؟
أمّا تركيا، فتشعر بأنَّ دعمها أوكرانيا بدأ يأتي بنتائج عكسية، باعتبار أنّ كييف أمست دولة شبه فاقدة لذاتها، وتحوّلت إلى "دمية" في أيدي الدول الغربية، وخصوصاً الولايات المتحدة التي تنفذ مخططاً كلاسيكياً قديماً طغى على نهج سياستها الخارجية، وعنوانه: "فرق تسد".
إذ يبدو هذا النهج موجّهاً بالتساوي ضد كل من روسيا وتركيا على السواء، وتعتزم الولايات المتحدة استخدامه بمواجهتهما، في ما يبدو، من أجل تفريقهما وزعزعة استقرار الأمن الأوروبي وأمن منطقة الشرق الأوسط.
إقرأ أيضاً: "الممر الشمالي" الروسي: متنفس "الحزام الطريق"؟
أمّا أنقرة، فتأخرت في استدراك هذه الحقيقة، وتشعر اليوم بأنّها باتت "وسيلة" أو "مطية" لدى الأميركيين من أجل تحقيق طموحاتهم الجيوسياسية.
وعليه، فإنَّ تركيا تشعر بأن دعمها المتواصل لكييف، أصبح يعود عليها اليوم بتأثيرات سلبية، خصوصاً على صورتها وطموحاتها في منطقة الشرق الأوسط. بينما سلوك أميروف يظهر، أيضاً، أنّ ولاء بعض تتار القرم لم يكن يوماً لتركيا، وإنّما للغرب... وهذا يسهم بشكل غير مباشر في تشويه سمعة السياسة الخارجية التركية، وتحديداً سياسة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الرامية إلى توحيد منطقة آسيا الوسطى تحت راية "تركيا الكبرى" وكذلك منطقة الشرق الأوسط تحت راية "الراعي المسلم".