إيلاف من الرباط: يسلط العدد ال 15 من مجلة "بانيبال" الإسبانية الضوء على شعراء وكُتّاب فلسطينيين، مثل سامر أبو هواش وداليا طه ورنا زيد، ( ترجمة ماريا لويسا بريتو، والكاتبة فرح حليم هوب) ، علاوة على فصل من رواية "الحلواني: ثلاثية الفاطميين"، للكاتبة المصرية ريم بسيوني، الفائزة بجائزة الشيخ زايد للكتاب في فرع الأدب برسم 2024؛ وللكاتبة العمانية هدى حمد "لا يُذكرون في مجاز"، وللكاتب المصري عزت القمحاوي "الطاهي يقتل، الكاتب ينتحر"، بالإضافة إلى قصائد للشاعر الكولومبي الإسباني خوان بابلو روا، ضيف العدد.
صورة غلاف العدد الـ15 لمجلة بانيبال الإسبانية
تمجيد البكاء
مما جاء في افتتاحية العدد الجديد أن "تي إس إليوت" كتب تمجيدًا للبكاء الذي يميّز المرثيات: "على ضفاف ليمان شرعت في البكاء"، في كتابه "الأرض اليباب" (1922)، كان واحدًا من التجليات الأولى للمرثية الجماعية في الشعر الحداثي عقب الحرب العالمية الأولى. فيما أحال التاريخ بكاء الشاعر إلى نبوءة بالكوارث التي ستحل بالبشرية، بعد قليل، مع الحرب العالمية الثانية.
وأضافت الافتتاحية: ""لن يحدث مرة أخرى"، هكذا قيل بعد وقوع تلك الكوارث، لكن بحسب تصريحات محكمة العدل الدولية في يوليو 2024، ثمة كوارث أخرى تحدث الآن في غزة".
وأشارت الافتتاحية إلى أنه يتجلى في أعمال أبو هواش وطه وزيد وحليم هوب، عمل الشاعر والكاتب في تشييد ذاكرة وخلق مجتمع متخيل عبر الأدب، كما يكتب بنديكت أندرسون، "مجتمع سياسي متخيل بقدر ما هو محدد وسيادي بشكل غير متماسك" يرد على مطالب العدل النابضة في أدب المرثية.
وبحسب الافتتاحية، يمثّل عمل أبو هواش وطه وزيد وحليمة، في العدد الجديد من "بانيبال"، عنصرًا شديد الارتباط بتجربة "الجماعة السياسية المهمشة" لفلسطينيين يقاومون العنف اللاإنساني في غزة؛ وتجربة الفلسطينيين في الضفة الغربية في مواجهتهم لاعتداءات المحتلين الإسرائيليين ولنظام الفصل العنصري الإسرائيلي؛ وتجارب هؤلاء الفلسطينيين في المنفى. غير أن هذه الجماعة، تضيف الافتتاحية، تتشكّل كذلك من المجتمع المدني العالمي الموجّه إليه الكلمة والمتوجه إليه الشاعر، كما في "من النهر إلى البحر"، وهو عنوان يربط تيارات هذا الرافد من الجماعات حول العالم. أما في "والآن، تعال أيها الرعب"، فتكتب داليا طه: "بدونك لن ينظر أحد في عيني أحد، لن تلتقي الأيدي أبدا. هذه الأيدي هي التي تشير إلى مستقبل لا يزال ممكنًا للبشرية".
من النهر إلى البحر
في ديوان "من النهر إلى البحر"، يستحضر أبو هواش ديوانَ "الأرض اليباب" لإليوت، ليفتتح بذلك مرثية يتناول فيها الاحتضار الجارف والفقد الشخصي والجماعي تحت عنف القصف والجوع المتعمّد المفروض على شعب كامل أمام تجاهل المجتمع الدولي.
يوجّه أبو هواش، الذي تنشر له المجلة ديوانه "من النهر إلى البحر" كاملًا، خطابه إلى القارئ منذ الشطر الأول: "أيها الآتي من بعيد / يا من تقف على أعتاب تلك النهايات / يا من تطأ قدماه / هذه الأرض الخراب". لكن إليوت ليس إلا محطة انطلاق ما يلبث أن يختفي.
في قصيدته، يتوسل أبو هواش التناص مع إليوت وتجريده الرمزي من أجل تجسيد الفقد عبر اللغة، وإعادة تشكيل الجسد المتشظي لتقديمه أمام أعين القراء؛ لتكتسب الرؤية والنظرة، بالتالي، أهمية مركزية في طريقة أبو هواش الرثائية. فمن أجل التذكير بالمشاعر والضمير يستلزم الرؤية، ويصّر على تسريب نظرة قريبة للشاعر والقارئ من القصيدة الأولى، حيث "ثمة طفلة / يدها ممدودة / من بين الشقوق / وقلبها / يرتعش / تحت التُراب"، والتي، مثل قصة "القلب المنبئ" لإدغار ألن پو، تشير إلى الجريمة المرتكبة ضد أطفال فلسطين. أما في "نظرات أطفالنا بين الأطلال"، فيفجّر الشاعر مجددًا حاسة البصر وصلة الرؤية والفهم: هل يُدرك فعلًا ما نراه حين نختصره في عبارات؟ يقول الشاعر: "أولئك الذين زعموا / أنهم رأوا الضوء / لم يروا عيون أطفالنا / وهي تنظر من بعيد / حزينة، ميتة، ساخرة – عيون أطفالنا - / وهي تحدق بنا / بهم / وبنا / وبهم / من خلف القرون".
وتأتي عبارة " أنهم رأوا الضوء " - ككناية عن الإلهام- ضد النظرات الصامتة لحشود الأطفال "الحزينين، الموتى، الساخرين"، لتشكّل واحدة من توبيخات الديوان المركزية: أي فهم لما يحدث مع هذا التجاهل أمام مذبحة جديدة لأطفال غزة الأبرياء؟
وتضيف الافتتاحية أن إصرار أبو هواش على نظرات الشاعر والقارئ في زمن الواقع الرقمي يذكّرنا بتحذير سوزان سونتاغفي 2002 -قبل ظهور الشبكات الاجتماعية- بأن الصور الإعلامية لألم الحرب "خاصةً بسبب الشكل الذي تسجله به الكاميرات، يبرق، ويشاركه الجميع ويختفي عن الأنظار".
هكذا، تتحدى قصائد "من النهر إلى البحر" بالكلمات النظرة العابرة واختفاء الضحايا، في قصائد مثل "النظرات" "الضباع" "المجزرة" "جثث صغيرة" و"حتى تنتهي الحرب".
بهذا، يسلط أبو هواش الضوء على العلاقة بين حاسة البصر والنظرة الأخلاقية، فيكتب: "وقد يكون المشهد مختلفًا أيضًا/ لأن الذين ينظرون لا ينظرون حقًا (أو ربما ينظرون)".
يتوسل الشاعر الميتا شعر والنثر الشعري ليجادل النظرة نحو صورة تعكس مقتل طفل أمام أعين أبويه وشهود آخرين: "يبدو أحدهما بارتياب، كشخصية هامشية في لوحة واقعية من عصر النهضة، لكن عيناه منقسمتان … ولو أنك نظرت للصورة بدقة، ستراها تصرخ باسمه، لكن بعد أن ينتهي كل شيء". وفي الشطر الموجه للقارئ "إذا نظرت عن كثب" يستخدم تأثير الصورة لاستحضار "صرخة" الفتى ونقل رعب وألم أبويه.
تكشف نظرة أبو هواش للقارئ "وحشة الروح" في قصيدة "جالسًا أمام التلفزيون أشاهد الإبادة"، حيث يستحضر الشاعر عظمة الكارثة في غزة فتكتسب نوعًا من الفلسفة. ولازمة "أردت أن أقول" سلاح ذو حدين: الحاجة إلى التأكيد والتذكير واستحالة الكلام حول الإبادة، "أردت أن أقول الجريمة الناصعة الجريمة المركبة الجريمة الكاملة الأيدي المرفوعة القبضات المضمومة كل الآلهة الناقمة في قبضة واحدة في زعقة تفجر الأدمغة على الأرصفة تقود الدماء المسفوكة إلى أفواه الكائنات الجائعة في الأسفل أردت أن أقول".
تتماهى قوة الصور عند أبو هواش مع كثافة لغة تقترب لقول ما لا يمكن قوله: "سماء ممزقة فوق رأس، وأرض ممزقة تحت قدم"، و"أردت أن أقول". وإن كان للقصيدة نهاية، فالحاجة إلى التذكر ضرورية، يجب تسميتها، ويجب أن تحضر في قصائد في ديوان "من النهر إلى البحر"، إذ "كل شارع، كل بيت، كل غرفة، كل نافذة… كل مبروك ما إجاكم، وكل العوض بسلامتكم". ومن خلال تكرار كلمة "كل" لعد خسائر الفلسطينيين، وهي في الوقت نفسه أشياء مشتركة في التجربة اليومية لأغلب سكان الكوكب، يحوّل أبو هواش نظرة القارئ، ليس إلى احتضار الفقد فحسب، وإنما أيضا نحو الالتزام الإنساني بإعادة بناء "كل يمّا، كل يابا، كل اسم، كل اسم، كل اسم، كل اسم، كل اسم، كل اسم، كل".
تعال أيها الصمت
أشارت الافتتاحية إلى أن التجريب الشكلي يعتبر أحد الملامح المكررة في شعرية داليا طه، فيما تتحرك قصائدها في ديوان "والآن، تعالَ أيها الصمت" بين قصيدة النثر والشعر التقليدي لتعبّر عن كيف يحوّل الفقد تجربة الشاعرة إلى أشياء مثل الصمت والكتابة والدموع والقصيدة والكتاب والشعر.
ويعكس النداء في "الآن، تعال أيها الصمت" "والآن، تعالي أيتها الدموع" "والآن، تعال أيتها القصيدة" "والآن، تعالي أيتها الأغاني"، الدور الإبداعي للشاعرة،التي ما إن تنطق الاسم تعيد بناء علاقتها بالعالم.بينما يأتي هذا التعداد كتكنيك تستخدمه طه بكثرة، كما في قصيدتها شديدة الجمال "والآن، تعال أيها العالم"، التي تحتفي فيها بالمقاومة الجماعية للشعب الفلسطيني.
وفي "توطئة للألم" يسود البعد الرمزي، إذ تتوسل الشاعرة الخيال والرمز لتحول "البحر الفاحم" وألم التدمير إلى جمال. وحين تتحدث إلى حبيبها، تكتب: "فخمن أننا رأينا غير هذا الذي مرَّ علينا / خمّن أننا في الشام / نقص ورق الدالية اليابس / ثم نسهو فنعيد الى التفاح / الذي كنا سرقناه بالأمس، طعم التعاويذ والنهد".
في مواجهة التدمير
تشير الافتتاحية إلى أن الخيال كمأوى في مواجهة التدمير وذكرى الحرب هو كذلك أداة فرح حليمة هوب في قصتها المؤثرة، إذ تروي الانفصال الجبري بين شابين فلسطينيين حديثي الزواج خلال الحرب الأهلية في بيروت 1980، حيث ينقلنا سرد فرح حليمة هوب السينمائي إلى مكانين، لندن وبيروت، فيما يحاول البطلان التعايش على أمل اللقاء وتشييد عائلة مجددًا.
العصافير المشتعلة
تفتح كل من ريم بسيوني وهدى حمد فضاءات في داخل الشخصيات النسائية عبر الواقعية السحرية، فيما يتأمل القمحاوي في العلاقة بين المطبخ والكتابة، ويرسم صموئيل شمعون حياة الصعلكة القاسية في المنفى بباريس الثمانينات وصراع الفنان ليتحقق. كما أن التحقق الشخصي هو أيضًا موضوع رواية "ظل الشمس" للكاتب الكويتي طالب الرفاعي، التي يقدم لها العدد عرضًا في باب الكتب. بينما تأتي شعرية خوان بابلو روا، الشاعر الكولومبي المقيم في إسبانيا، من خلال احتفاء بالنسيج المنزلي للحياة اليومية في كولومبيا وبرشلونة، على حد سواء: "وحينئذ كان البيت هو الحشود / هو العصافير المشتعلة / هو نور الغناء. / والآن، أعيد بناء البيت / عامًا وراء عام، بيقين واحد: أني أجيد الغناء".
كما يتذكر العدد الجديد الروائي اللبناني إلياس خوري، مع تقديمه تغطية لموسم أصيلة الثقافي الدولي للعام 2024، وتكريمه للكاتب المغربي محمد الأشعري.
يشار إلى أن مجلة "بانيبال" الصادرة باللغة الإنجليزية في لندن، منذ 1998، كانت أطلقت، في 2020، نسخة إسبانية منها.
و"بانيبال"، لناشرتها مارغريت أوبانك، ورئيس تحريرها العراقي صموئيل شمعون، هي مجلّة أدبية تُعنى بترجمة الأدب العربي إلى اللغة الإنجليزية، ثم الإسبانية.