إيلاف من القاهرة: افتتح الفيلم السعودي، "ثقوب"، مسابقة "آفاق عربية" ضمن فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي الدولي. وهو التجربة السينمائية الثالثة للمخرج عبد المحسن الضبعان الذي سبق أن قدم تجربتين، إحداهما "آخر زيارة"، ناجحة بكل المعايير السينمائية كونه شارك في كارولوفي فاري ثم نال جائزة التحكيم في مهرجان مراكش، في حين أن الفيلم الآخر، "الخطابة"، الذي انتجته شركة "تلفاز" وعُرِض على "نتفليكس"، كان دون المتوقع بكثير.
تدور أحداث الفيلم حول راكان، الذي يؤدي دوره مشعل المطيري. هو رجل في منتصف الأربعينيات من عمره، خرج من السجن بعد فترة عقوبة أمضاها فيه على خلفية تورطه في قضية مرتبطة بالتطرف الديني. نتتبع حياته الجديدة، وهو يشقّ دروبها الشائكة في ظل ظروف اقتصادية واجتماعية صعبة للغاية.
كانت فترة بدايات الألفية الجديدة مفصلية في تاريخ المملكة العربية السعودية، خاصة أنها ترافقت مع المواجهة الحاسمة بين الدولة من جهة والتيار الديني المتطرف والجماعات الجهادية من جهة ثانية، حيث شهدت المملكة تنفيذ العديد من العمليات الإرهابية التي استهدفت عدداً من المدن، بل المجتمع السعودي بشكل كبير، ومعظم هذه العمليات جرى للأسف على أيدي مواطنين من أبناء البلد.
حقق صنّاع الفيلم على مستوى الفكرة "ضربًا" ذكيًّا، تمثل في الغوص على حياة شخص متطرف ديني سابقا، وقد خرج للتوّ من السجن ليحاول مباشرة حياة مختلفة، وليواجه المجتمع، وتحديات العيش، وصعوبات إيجاد عمل، وتقبّل الناس له في بلد محافظ يشهد التغيرات العميقة، الأسرية والمجتمعية، التي تطاول المفاهيم والتقاليد وعالم القيم.
راكان الذي سيعمل في ورشةٍ للسيارات، والمقاولات ويقاسي الأمرين من ظروفه الاجتماعية، كيف سيتمكن من التعايش مع ذكريات الماضي وشجون التطرف والسجن والتعاطي مع الناس، و... تسديد إيجار منزل متواضع في الرياض، قيمته ثلاثون ألف ريال، وهو مبلغ يعتبر مقبولا للغاية بل متدنيًا؟
يؤدي المطيري هذا الدور، محاولاً ولوج أكثر أحوال بطله النفسية والجسدية والمادية تعقيدًا وألمًا وبؤسًا، بالتوازي مع كون فرص النجاح شبه منعدمة أمام راكان، في قلب مجتمع يشهد تحولات جذرية بالغة السرعة، وهو الشخص الذي لم يتيسر له أن يتم دراسته الجامعية، ولا أن يتقن اللغة الانكليزية، ولا أن يتمكن من اختراق الجدار المسدود أمام مستقبله وأيامه المقبلة.
حضرت الفيلم، وإذا كان قد لفتني مناخه وجوّه العام، وبعض الإيحاءات والعناصر والدلالات التي تلقي الضوء على حياةٍ عائلية في بيئةٍ أقل من متوسطة، بيوتاً قديمة ومقاهي وشوارع ومطاعم متواضعة، إلّا أن "ثقوب" لم يستطع أن يسدّ الثغرات والهنات التي تلفّ مسيرته. وإذا كان الاهتمام بالتفاصيل هو سمة مميزة في صناعة الأفلام السعودية (حد الطار، أغنية الغراب، الهامور ح ع )، إلا أن هذا الاهتمام نالته "ثقوب" كثيرة، من شأنها أن تحول دون صناعة فيلم مميز متكامل.
أضعف ما في الفيلم هي حواراته، تلقينية، باردة، صوتية، ، حيث تعبر مشاهد عديدة يشعر خلالها المُشاهد أن ثمة نصًّا يُراد تسميعه من الممثلين فقط. يلفت الغياب الفادح للمشاعر وللتفاعلات الحقيقية ما بين الشخصيات، بسبب التسطيح الذي يسم غالبية الحوارات، وتبسيط الشخصيات إلى حد كبير. لا أحاسيس، لا انفعالات داخلية، لا مشاعر، بل أداءات لا ترقى إلى متطلبات السينما.
اذكر مثالاً مشهدين، مشهد الإستراحة ومشهد الورشة. في الأول يلتقي راكان مسؤول السجن السابق، وفي الثاني يلتقي صديقه ابا مصعب. وعلى الرغم من اجتهاد الممثلين في الأداء، ولا سيما مشعل المطيري ومريم عبد الرحم، فإن مثل هذا الاجتهاد يبقى غير كافٍ لصناعة فيلم قابل للحياة.
إذا كان "ثقوب" هو الفيلم الطويل الثالث للمخرج عبد المحسن الضبعان، إلا أنه يعتبر خطوة للخلف مقارن بفيلمه الأول، "آخر زيارة". مع ذلك، يحسب للضبعان أنه لا يزال يجرب ويبحث ويغوص في مواضيع اجتماعية تنبئ عن مخرج عارف ببواطن المجتمع، لكن لا بدّ له من أن يبذل جهودًا فنية حاسمة، لنعود نتذكره بفيلم آخر، غير فيلمه الأول.