: آخر تحديث

معاركٌ فرنسية حول هايدغر

56
55
39

في بداية حكمه مطلع الثمانينات من القرن الماضي، أعلن الرئيس الفرنسيّ الرّاحل فرانسوا ميتران أنه من الضّروري تعميم تدريس الفلسفة، والإعتناء بها في المعاهد، وفي الجامعات كمادّة أساسيّة في توجيه الأجيال الشابّة، وتربيتها.

واستجابة لهذه الدّعوة، قام الشاعر، والفيلسوف جان بيار فاي بتقديم اقتراح يقضي بإنشاء معهد عالمي للفلسفة تكون مهمّته الأساسيّة تنظيم ندوات حول قضايا فلسفيّة ،والتّعريف بكبار الفلاسفة من القدماء والمحدثين. وقد تحمّس ميتران للفكرة المذكورة، ودعا إلى قصر "الأيليزيه" جان بيار فاي أكثر من مرّة لمناقشتها.

لكن في النّهاية، خيّرت الحكومة الفرنسيّة تعيين الفيلسوف المعروف جاك دريدا على رأس المعهد الجديد، أعني بذلك المعهد العالمي للفلسفة. فكان ذلك بمثابة الطّعنة لجان بيار فاي ولمشروعه. غير أن جان -كلود ميلنار الذي أصبح عضوا في المعهد المذكور علّق على القرار قائلا: "لقد كان مشروع جان بيار فاي مغريا حقّا إلاّ أنه يحتاج إلى مشروعيّة فلسفيّة، وإلى شهرة عالميّة تضمن له النجاح، والإستمراريّة. وهذان الأمران متوفّران لدى جاك دريدا وليس لدى فاي".

ومع أنه عيّن سكرتيرا عامّا لما سمّي بـ"المجلس الأعلى للتّفكير"، فإنّ جان بيار فاي شرع في شنّ معارك ضدّ خصمه اللّدود، جاك دريدا. وقد أفضت تلك المعارك إلى طرده من المعهد العالمي للفلسفة لينشئ "الجامعة الأوروبيّة للبحث" محاولا من خلالها منافسة خصمه.

ولم يكتف بذلك، بل شرع في كتابة سلسلة من المقالات يتّهم فيها جاك دريدا بترويج فلسفة هايدغر في الجامعات الفرنسيّة من دون ان يأخذ بعين الإعتبار ماضيه النّازي حيث أن صاحب "الكينونة والزمن" قام في الثلاثينات من القرن الماضي، وهو آنذاك عميدا لجامعة فرايبورغ، بتقديم تأييد علني لهيتلر في بداية صعود النازيّة.

وقد عبّر البعض من الفلاسفة الفرنسيّين المعروفين من أمثال جان -لوك نانسي، وميشال دوغي عن مساندتهم المطلقة لجان بيار فاي. وفي هذه المرّة، لم يعد جاك دريدا الوحيد المتّهم بـ"نازيّة "هايدغر، بل وأيضا كلّ من ليفيناس، وجان بول سارتر، وميشال فوكو إذ أن هؤلاء الثلاثة ظلّوا مفتونين بصاحب"الكينونة والزمن" على مدى خمسين عاما "غاضّين الطّرف" عن دفاعه عن النّازيّة، وعن سكوته عن الجرائم الفظيعة التي ارتكبتها في حقّ الإنسانيّة.

ومبرّرا مثل تلك التوجّهات، قال جان-كلود ميلنار :”علينا ألاّ ننسى بأنّ الفلسفة الفرنسية قبل الحرب الكونيّة الثّانية كانت نوعًا من السّايكولوجيا التّجريبيّة العاجزة عن طرح القضايا الأساسيّة. لذا كان عليها أن تبحث عن مصادر خارج فرنسا. ولم تجد تلك المصادر إلاّ في ألمانيا حيث قدّم لها هيغل المفاهيم. أمّا هايدغر فقد قدّم لها الأسلوب".

لكن هل كان هايدغر نازيا فعلا؟
في عام1933، أي في بداية صعود النظام النازي بعد حرق "الرايشتاغ"(البرلمان)، عُيّن هايدغر الذي كان قد أصبح يتمتع بشهرة واسعة بفضل كتابه "الكينونة والزمن"، عميدا لجامعة فرايبورغ. خلال حفل التنصيب، ألقى خطابا اعتبره خصومه من المفكرين والفلاسفة، بمثابة التأييد الواضح والصريح للسياسة النازية.

وفي واحدة من فقرات ذلك الخطاب، ورد ما يلي: "عقب ما جاء في خطاب المستشار(أي هيتلر)، أؤكد أن على الشعوب التائقة للحرية، أن تختار الآن الطريق الذي يناسبها. أما بالنسبة لنا نحن، فقد قررنا بحزم أن نسير في الطريق الصعب الذي أجبرنا على السير فيه، وذلك وفاء منا لمسؤوليتنا أمام حدود الممكن والرفاقية إلى آخر درجة. فلنسرعْ الآن في العمل، وليكن عملنا هذا صغيرا كان أم كبيرا موجها إلى هذا الانطلاق وإلى هذه الرفاقية".

في ما بعد اعترف هايدغر أن الخطاب المذكور كان "أفظع خطأ ارتكبه في حياته". وفي الحوار المُسْهب الذي أجرته معه مجلة" دير شبيغل" واسعة الانتشار، ونشر بتاريخ 31 مايو\أيار 1976، وذلك إثر وفاته بأيام قليلة، قال صاحب "الكينونة والزمن" بإن الهدف الأساسي من قبوله منصب عمادة جامعة فرايبورغ هو انقاذ الجامعة الألمانية من "التفتت والفوضى". ثم أضاف قائلا: "في ذلك الوقت، كنت مهتما بالمسائل التي وردت في كتابي: "الكينونة والزمن"، وأيضا بالمحاضرات التي ألقيتها في الأعوام الموالية. إنها مسائل فكرية أساسية ليس لها علاقة مباشرة بالمسائل القومية والاجتماعية.

في مطلع عام 1934، استقال هايدغر من منصبه كعميد لجامعة فرايبورغ مُعَللا ذلك باستحالة القيام بعملية التجديد التي كان يدعو لها.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في ثقافات