كثيراً ما يتردد مصطلح «الحوكمة» في أدبيات الإدارة الحديثة دون أن يصاحبه توضيح دقيق لحجمه وأثره على الأداء المؤسسي.. فهي منظومة متكاملة من المبادئ والإجراءات التي تحدد كيفية اتخاذ القرار، وضبط العمليات، ومتابعة الالتزام.
وفي سياق المؤسسات العامة والخاصة، فالحوكمة تعتبر عاملاً جوهرياً في رفع كفاءة الأداء وتعزيز المساءلة وتحقيق الاستدامة. ولهذا، فإن الحديث عنها لا بد أن يتصل مباشرة بتأثيراتها العملية التي تظهر في النتائج والأداء.
فأول ملامحها تظهر في وضوح الأدوار والمسؤوليات داخل المنظومة. هذا الوضوح يقلل من التداخلات، ويمنح كل فرد أو إدارة إطاراً واضحاً للتحرك والتنفيذ، وهو ما ينعكس على سرعة الإنجاز وجودة القرار، كما أنها تفرض معايير محددة للرقابة الداخلية والتقارير الدورية، ما يساعد في الكشف المبكر عن مواطن الخلل، وتصحيح الانحرافات قبل أن تتفاقم. الأثر هنا ليس تنظيمياً فقط، إنما يمتد إدارياً ومالياً، إذ تقلل الهدر وترفع كفاءة الإنفاق، سواء كان ذلك في مشروعات كبرى أو إجراءات تشغيلية يومية، وتسهم في رفع الناتج المحلي وتحريك العجلة الاقتصادية بطريقة مستدامة.
على مستوى المملكة، هناك ريادة واضحة في هذا المجال وتطور كبير، والذي ساعد على ذلك دخول التقنيات في العمل، وبروز الحوكمة الرقمية كامتداد طبيعي لهذا التحول، وأصبحت الأنظمة الذكية قادرة على رصد الأداء، وضبط الامتثال، وتقديم مؤشرات فورية تساعد في اتخاذ القرار.
والأعوام الماضية أصبح هناك نمو ملحوظ في تبني منظومة الحوكمة داخل الجهات الحكومية والشركات، مدفوعة برؤية وطنية واضحة تهدف إلى تعزيز الكفاءة والشفافية والاستدامة. هذا التوجه انعكس في تأسيس وحدات حوكمة مستقلة داخل العديد من الجهات، وتطوير الأدلة والسياسات التي تنظم العمل المؤسسي، بما في ذلك آليات الإفصاح وإدارة المخاطر والرقابة على الأداء. كما أطلقت جهات تنظيمية عدداً من المؤشرات والمعايير التي تُقيّم مستوى الالتزام بالحوكمة، وتُحفّز على تطويره، مثل لائحة حوكمة الشركات، وأدلة الحوكمة في القطاع غير الربحي، وغيرها من المبادرات التي تعكس تحولاً استراتيجياً في بناء بيئة عمل مؤسسية ناضجة، ولا شك هذا التحول يعزز قدرة المملكة على جذب الاستثمارات، ويدعم تنافسيتها الاقتصادية، ويرفع جودة الخدمات، وهو ما يتماشى مع مستهدفات رؤية 2030 في بناء مؤسسات فعالة ومنتجة تحقق الأثر التنموي المطلوب.
أخيراً، أي منظومة تتضح فيها الأدوار والمسؤوليات وتنضبط فيها الإجراءات تُصبح أكثر كفاءة في اتخاذ القرار، وأكثر قدرة على تحقيق أهدافها بكفاءة، واستدامة اقتصادية، وإدارية، واضحة.