: آخر تحديث
شهادة خاصة وعامة

عشر سنوات على قرار ميركل: إنقاذ حياء وجه العالم وسوريا في المنفى

14
12
9

في 30 حزيران (يونيو) 2015، أزيح الستار عن وجه آخر للسياسة، وجه إنساني نير ونادر في زمنٍ محرج وقاسٍ، حين وقفت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل وقالت عبارتها التي لا تُنسى: !Wir schaffen das، ففتحت أبواب بلدها أمام السوريين الذين كانت الأرض تضيق بهم، والمنافذ تسدّ، والبحار تبتلع أحلامهم وأجسادهم.

لقد أنقذت ماء وحياء وجه العالم حين تجرّأت على كسر حاجز الخوف، وتقدّمت بخطوة إنسانية تاريخية، في اللحظة الحاسمة المنتظرة، كانت وحدها تمثّل قارة بكاملها. لم تقل: "مشكلتهم!"، بل جعلت ألم السوريين مسؤوليتها الشخصية، ففتحت الحدود، واستقبلت شعباً جريحاً، بلا شروط، بلا مساومات، بلا مهانات.

أتذكر اللحظة تمامًا. أتذكر تجربتي الشخصية حين عرضت عليّ مسؤولة المكتب السياسي في السفارة الألمانية في أبو ظبي، السيدة "س. ب."، وأنا أرافق صديقاً لي كي أتوسط لأجل وضعه، إذ بادرت وعرضت عليّ فكرة اللجوء، وسألتني: كم بقي في جواز سفرك؟ وهل سيجدد لك؟ أجبتها: يكاد ينتهي. لن أذهب إلى السفارة وهم أيضاً لن يمنحوني جواز سفر جديداً. لم تكن فكرة الهجرة في بالي، فقد أتيت قبل ذلك بأشهر إلى أوروبا ورفضت الإقامة فيها، كما أنني والشهيد مشعل التمو عدنا في العام 2004 من أوروبا، بالرغم مما ينتظرنا من خطر. ابني أيهم، ومعه أسرته، وصلوا قبل ساعات. أجل، قبل ساعات، فقط من انتهاء مدد جوازات سفرهم. ولو أن الطائرة تأخرت ساعات، عن موعدها أو هبطت في مطار ما لظرف ما خارج خطة برنامجها، لانتهت صلاحية الجواز، ولضاعت الفرصة، ولعلقت الأسرة في المجهول.

وقتها، نظرت إليّ السيدة "س. ب."، وقالت: "أنا أعرف تماماً ما قمت به في الوطن من دور في مواجهة النظام، ولذلك أطرح عليك هذا الخيار من باب التقدير والإيمان بأنك تستحق". أوجه إليها التحية من هنا، وما زلت متواصلاً معها ولا أنقطع، وأقدر ما قامت به من موقف إنساني نادر، يعكس جوهر السياسة الألمانية الأخلاقية كما مثّلتها ميركل.

نجونا. وصلنا. توصلنا إلى الإقامة، مع أسرتي وأولادي وأحفادي. كلنا دفعة واحدة، بعد أسبوعين من وصول ابني. وكان معي أحد أصدقائي مع أسرته، شاركني رحلة الخلاص نفسها، ضمن ملفنا الخاص. عندما وصلنا أتينا من المطار إلى سكن جاهز، من دون أن أعرف كامباً أو فندقاً، أو أن أحتاج أحداً. كل ما يلزم متوافر فيه. أعترف كنا على الحافة، من دون أن ننتبه، وأم المهاجرين السوريين أنجيلا ميركل وحدها من مدت يدها إلينا، حين كنا على شفا الهاوية، وكثيرون منا يستغيثون ولا يُسمعون! يُقتلون ولا يبالي بهم أحد، يُقذفون خارج حدود هذا البلد العربي أو كأن السوريين طاعون متحرك.

لطالما كنت وأنا في الوطن السوري، معروفاً بمعارضتي للهجرة. وجهت أولادي وتوجهت إلى بلد عربي خليجي أكرمني حقاً عندما أصبحت حياتنا في خطر نتيجة ترصدنا من قبل السلطة ومخبريها وأزلامها، رافضاً الهجرة إلى أوروبا. لم أكن رقماً، مؤكد كان ذلك لأن النظام المجرم كان يعرفني صوتًا مدافعاً عن أهلي الكرد والسوريين في آن، ضمن حدود ما يمكن أن تفعله الكتابة التي كانت ترعب جلاوزة النظام والسلطات. لقد كان اسمي مسجلاً في قوائم المغضوبين عليهم الخاصة بمنع السفر أو الحصار، قبل الثورة، قبل أن أغادر. النظام يعرفني كما أمثالي الذين كانوا يواجهونه وهم في الوطن، لأنني كنت أكتب وأشهد، وكانوا يعرفون ذلك هنا أيضاً. بالرغم من كل شيء، رحّبوا بي وبمن معي، لم يحاكمونا على انتمائنا، لم يستجوبونا عن ماضينا، بل قدّموا لنا فرصة حياة جديدة. من سجنه أعلمني الشهيد مشعل:
سافر حالاً
هكذا أعلمني حفيظ عبدالرحمن من وراء القضبان بعد ظهوره كما مشعل إثر اختفاء مرعب

مرت السنوات، وكبر أبنائي وبناتي، وها هم اليوم يحملون شهادات من جامعات ألمانيا. آخرهم تخرّج أمس من الثانوية، بعلامات عالية، نجاح لا يُقدّر بثمن. نجحوا في التعليم، كما نجحوا في الاندماج، والعمل، وها هم يبنون حياتهم بعرق الجبين. كل شيء غدا ممكنًا، لأنَّ الأبواب لم تُغلق، ولأن هناك من آمن أنهم يستحقون الفرصة، كما أمثالهم من السوريات والسوريين المميزين والمبرزين والمتفوقين في مجالات العمل والدراسة كافة.

وإذا كنت قد تحدثت عن تجربتي الشخصية فإنَّ على كل سوري أن يفعل مثل هذا. تصوروا ماذا كان مصير أكثر من هاجر في مثل هذا اليوم من تركيا إلى ألمانيا لو بقوا هناك؟ وهو سؤال نرميه في وجه من يدافع عن سياسات تركيا ومن يفتحون لها بوابة الوصاية على السوريين، داخل الوطن، حتى فيما يتعلق بقضايا سيادية.

أجل. ترى من يستطيع أن ينسى؟ من يمكنه محو لحظة نجاته؟ ألمانيا لم توفر لنا فقط سقفاً فوق رؤوسنا ولا سبل عيش يصون كرامتنا، بل أيضاً الضمان الصحي في مداه الأقصى الذي لم نكن نحلم به، حتى في أحسن أيام بلادنا. الطبابة، المأوى، الاحترام، القانون، الكلمة التي لا تُقمع، والحق الذي لا يُباع، هذه كلها صارت لنا بعد أن كنا محرومين منها في بلادنا التي كنا نحبها أكثر مما أحبّتنا.

لقد كانت الإهانة في تركيا، تهديداً يومياً. كانوا يبتزون كثيرين من سوريينا، يتاجرون بلجوئهم. كانوا أرقاماً يتفاوضون بها مع أوروبا. أما في بلدان عربية أخرى، فقد ضاقوا بالسوريين ذرعًا، طُرد بعضهم، وأُغلقت في وجوه سوادهم الأبواب والمطارات. لم يكونوا مجرد لاجئين ذوي حقوق، بل عبئاً مؤقتاً. منسيين، مهمشين. بينما -هنا- في ألمانيا، فقد استُقبلنا جميعاً كبشر ذوي حقوق كما أهل الدار أنفسهم.

كل ذلك بفضل ألمانيا وأرومة ثقافتها.

كل ذلك بفضل ميركل ومن وقف معها من رفاقها في حزبها Christlich Demokratische Union Deutschlands (CDU)، ومن آزروهم بترجيح هذا القرار.

يُعامل الكلب في أوروبا، باحترام، وله اسم ووسم ورسم وسجل وتأمين صحي وطبيب نفسي. أما الإنسان في أوطاننا، فقد كان بلا اسم، بلا مأوى، بلا دواء. رأينا كيف كان السوري يُركل على الحدود، يُهان، يُجلد، يتجرع المازوت بأمر من أحد أنفار الجندرمة، كيف يُغرق في البحر من خلال مسلسلات البلم، بل الشاحنات كما ما عُرفت بشاحنة النمسا، كيف يُمنع من دخول المطار، كيف يُركل من مدرسة أو عمل، كيف أن آلاف أرباب العمل سرقوا حصيلة عرق وكدّ اللاجئ في ديارهم، لأنه فقط سوري. لكن ميركل فتحت باب الحياة. فتحت باب النجاة.

لقد أنقذت أنجيلا ميركل، بكلمة واحدة، ومستند سياسي واحد، مئات آلاف الأرواح، بشهامة ونبل ونخوة مختلفة عن كل قادة الدول الإسلامية والعربية. أنقذت ما تبقّى من ضمير في هذا العالم. أعادت تعريف السياسة بأنها ليست فقط أرقاماً وصفقات، بل هي موقف أخلاقي. إنها، الآن، لم تعد مسؤولة. تركت منصبها. عادت مواطنة بسيطة، بلا موكب ولا هالة. لكنها بقيت أيقونة. امرأة بحجم ضمير العالم، وهو ما شجعني أن أكتب لأني أنفر من مديح كل ذي سلطة.

بالنسبة إلينا نحن السوريين، لم تكن مجرد مستشارة، بل إنسانة حملتنا على كتفيها، حين أدار لنا كلهم الظهر. من ينسى؟ أنا لا أنسى. أولادي لا ينسون. أصدقائي لا ينسون. الضمان الصحي، المدارس، السكن، الكلمة الحرة، الكرامة، كلها أشياء لم نكن نعرفها قبل أن نعرف ألمانيا. ولسنا وحدنا. آلاف غيرنا، اليوم، يشقّون طريقهم هنا، يعملون، يدرسون، ينتجون، يخدمون.

هذه ليست مجرد قصة لجوء. هذه شهادة حيّة على أن الرحمة والإنسانية ممكنتان، وأن القرار الصحيح في اللحظة الحاسمة يغير مجرى حياة أمة بأكملها.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.