لا تُطلق الموانئ الرصاص، ولا تصرخ في المؤتمرات، لكنها تقرر مصير الدول كما يفعل السلاح النووي… وربما أخطر. في عالم يُعاد تشكيله من تحت الأمواج، تتحوّل الموانئ من نقاط عبور إلى مفاتيح هيمنة، ومن بوابات تجارية إلى جبهات سياسية واقتصادية وعسكرية ناعمة… لكنها لا تقل عنفاً. الموانئ لم تعد مناطق (خلفية) بل صارت قلب الصراع، وشرايين القوة، وجغرافيا النفوذ المغمورة بالماء.
حرب الموانئ ليست صراعاً على الأرصفة، بل على المعنى: من يربط العالم، ومن يتحكم في تدفقه، ومن يملك الحق في فتح أو غلق الشرايين البحرية للأمم. ومن لا يشارك في هذه الحرب… يُستَبعَد من اللعبة. هي ليست حربًا بالمعنى التقليدي، بل (إعادة هندسة للخرائط) دون أن يُعاد رسمها. الخرائط هنا لا تُرسم على الورق، بل تُصنع بالسفن، بالشحن، بالعقود، بالتمويل، بالتكنولوجيا، وبالوقت.
من اليمن إلى جيبوتي، من سريلانكا إلى القرن الأفريقي، من باكستان إلى أثينا، ومن سنغافورة إلى بورسعيد… تتشكّل تحالفات وتنهار دول، ليس بسبب المواجهة المباشرة، بل بسبب الاصطفاف على خرائط السيطرة المينائية. الصين لم تحاصر أحداً عسكرياً، لكنها تشتري موانئ كمن يشتري رقع شطرنج، قطعة قطعة. (مبادرة الحزام والطريق) ليست مشروعاً بنيوياً، بل استراتيجية تمدّد ذكي، تقوم على مبدأ: لا تدخل عبر الباب… بل افتح نافذة الشحن.
في المقابل، تحاول الولايات المتحدة أن ترد على هذا التوسع بأسلوبها المألوف: تحالفات أمنية بحرية، اتفاقيات سيادية، قواعد عسكرية قرب الممرات. لكنها تدرك أن العالم لم يعد يتجاوب مع القوة الصلبة كما في السابق. لقد تغيرت قواعد اللعبة. الجرافة قد تهزم المدمرة، والعقد التجاري قد يهزم الرادار، والميناء الصغير قد يشلّ حركة أسطول كامل.
في اليمن، تحوّلت الحرب على الإرهاب وعودة الدولة من مخالب الانقلاب إلى صراع على الساحل، من موانئ الحديدة إلى المخا وعدن وسقطرى. لم تعد المعارك فقط للسيطرة على الأرض، بل لضمان من يسيطر على العقد البحرية، ومن يملك حق التوقّف والإمداد والرسو. في البحر الأحمر، حيث تمرّ أكثر من 12 بالمئة من تجارة العالم، تُعاد كتابة خرائط التأثير الإقليمي والدولي على ظهر السفن، لا في دهاليز السياسة.
ميناء دوراليه في جيبوتي، الذي كانت تديره موانئ دبي، تم تأميمه فجأة في 2018. خلف القرار، تقف حسابات صينية وفرنسية وأميركية تتصارع على بوابة أفريقيا. نفس الشيء تكرر في سريلانكا، حينما اضطرت كولومبو لتأجير ميناء (هامبانتوتا) للصين لمدة 99 عاماً بسبب الديون. لم تُطلق رصاصة، لكن الدولة فقدت منفذها… بصفقة.
في موانئ المتوسط، تشتد الحرب الهادئة. تركيا تمد نفوذها نحو ليبيا لتضمن لنفسها موطئ قدم في البحر، ومصر تتحرك لتأمين قناة السويس التي تمثل شرياناً لاقتصادها القومي. في أثينا، استحوذت الصين على 67 بالمئة من ميناء (بيريوس) ولم يكن الاستحواذ مسألة استثمارية فحسب، بل موقعاً استراتيجياً في الخاصرة الأوروبية.
العالم يتجه نحو صراع ليس على الأرض، بل على (منصات الأرض) ومنصة الأرض الآن هي الميناء. من يتحكم بالموانئ، يفرض قوانين جديدة: ليس من خلال الحروب، بل عبر القدرة على تحديد من يُصدّر، ومن يستورد، ومن يتأخر، ومن يخسر.
التحولات المناخية من جهة، وتفكك سلاسل الإمداد من جهة أخرى، والمخاوف الأمنية من جهة ثالثة… كلها تعيد هيكلة دور الموانئ في النظام العالمي الجديد. لم يعد يُنظر للميناء كمجرّد منشأة لوجستية، بل كـ (مؤسسة جيوسياسية عميقة) تؤثر على استقرار الدول، وتُستخدم كأداة للتفاوض أو الابتزاز أو الحصار.
ماذا يعني أن تسيطر دولة على موانئ دولة أخرى؟ يعني أن تُحكم الخناق على أمنها الغذائي، وصناعتها، ووارداتها الحيوية، وحتى تحركات جيشها. الميناء هو عقدة الضعف أو نقطة القوة. وليس من المبالغة القول إن حروب المستقبل لن تُعلن من على الشاشات، بل من داخل غرف التحكم في حركة الشحن البحري، وهذا ما يحدث مع موانئ البصرة في ظل النفوذ الإيراني في العراق.
الاقتصاد السياسي لحرب الموانئ لا يقل تعقيدًا عن أي معركة عسكرية. كل اتفاق استثمار في الموانئ بات يُنظر إليه باعتباره تحالفاً أمنياً مقنّعاً، كل شركة تشغيل، هي واجهة لدولة. كل رافعة حاويات، قد تخفي كاميرات تجسس أو أجهزة مراقبة.
في هذا السياق، يظهر الذكاء الاصطناعي كأداة إضافية لتسريع الهيمنة. فكل ميناء بات يشبه كائناً رقمياً، يمتلك قاعدة بيانات ضخمة عن حركة البضائع، الأشخاص، المعدات، حتى ما يُعتقد أنه غير مهم. ويمكن لتلك البيانات أن تتحوّل، في لحظة توتر، إلى سلاح استراتيجي يعطّل خصمك دون الحاجة لإعلان الحرب.
الاستشراف هنا لا يعني التنبؤ، بل الفهم: من لا يملك لنفسه منفذاً بحرياً حراً ومستقلاً في العقدين القادمين، سيتحوّل إلى تابع. ومن لا يستثمر في البنية التحتية الذكية للموانئ، لا يُعدّ لاعبًا جيوسياسيًا، بل مجرد محطة انتظار تُحدد له المسارات.
الزمن القادم هو زمن البحار.
لا بالصواريخ… بل بالحاويات.
لا بالجنرالات… بل بالمشغلين.
ولا بالنصر… بل بمن يحدد لمن تُفتح البوابة ومن يُترك في عرض البحر.
هذه ليست حرباً بالمعنى الكلاسيكي… بل (احتلال ناعم للبنية السيادية) للدول.
إنها حرب لا نراها، لكنها تتحكم بنا، وإذا استمرت دون إدراك فستكون هي التي تُعيد رسم حدود العالم بلا طلقة واحدة.