: آخر تحديث

ترامب وبوتين كما صورهما كافكا

1
2
1

في كتابه "أفضل كتاب في العالم"، يهمس مانويل فيلاس من خلف ستار العمر والحبر بأن كافكا كان ظلّه ورفيقه، الحاضر في أيام الرخاء مثلما في لحظات الانكسار، فهو دواء شامل، ينقذك إن ابتسم لك القدر أو إذا انقلب عليك. ولهذا، لم يكن من الممكن أن يكتب عن أحد غيره. وقد فعل. فجاء "بعد الظهر مع كافكا" كأنه صلاة خاصة، لا موسوعة. عمل مليء بالحب والافتتان، لا بالتحليل البارد. من أول سطر، نعرف أننا لا نقرأ ناقدًا، بل عاشقًا. يقولها بوضوح: "أنا لست قارئًا لكافكا. أنا مريده".

عند فيلاس، كافكا ليس كاتبًا، بل تاجر مخدرات من طراز رفيع، يبيعك مادة لا تحمل آثارًا جانبية، بل تمنحك الإدمان النبيل. إنه طبيب الكوابيس الشمولية، يمارس سلطانه على القارئ بحنان قاسٍ. أما الأدب، فلا يحتمل البرود. لا قيمة للقراءة إن لم تكن مشتعلة بالشغف. فالأكاديمي يجمّد ما يجب أن يضيء، بينما الأدب الحقيقي يحتاج إلى قلب يرتجف أمامه، لا عقل يشرّحه. وإن لم تهتز حين تقرأ لكافكا أو لبروست، فالأرجح أنك لم تقرأ بعد.

والكتاب جزء من مشروع يطلب من الكتّاب المعاصرين أن يكتبوا عن شغفهم بكبار الكتّاب. وهكذا يشير فيلاس إلى لقاءه الحاسم مع دون كيشوت، ذلك الذي ظل محبوسًا في سجون فقه اللغة الجامعي، إلى أن جاء نابوكوف وكشف له أن الرواية ليست حكرًا على المختصين، بل كنز للناس. الكلاسيكيات، في نظره، يجب أن تتحرر من قبضة الأكاديمية وتعود إلى أحضان القلوب.

ويحذر: من يظن أنه فهم كافكا لأنه قرأ "التحول"، مخطئ. نعم، تلك القصة كافية لتخليد اسم أي كاتب، لكن كافكا الحقيقي يختبئ في "المحاكمة"، و"القلعة"، و"أميركا" — حيث تتجلى رؤياه الكاملة، بالرغم من أن القلعة بقيت غير مكتملة، كأن كافكا تعمّد أن يتركها هكذا، لغزًا دائمًا.

ومثلما يستخدم الجزار كل جزء من الخروف، يُستخدم كافكا بكل ما كتب. فبعد الغوص في رواياته، يأتي الفضول الطبيعي: من هذا الإنسان الذي كتب مثل هذا العالم؟ هنا، تدخل الرسائل. في تلك الأوراق الخاصة، نرى كافكا الإنسان — الفيلسوف، المتألم، الحالم، والممزق. رسائله إلى ميلينا، إلى فيليس، ليست تاريخًا، بل شفرات روحية، ما زالت تُقرأ وتُكشف.

حين تصبح "كافكويًا"، تبدأ بالنظر إلى العالم بعدسة مكبرة، ترى فيها التفاصيل تشتعل بالعظمة والخطر، وتشعر بخفقة خارقة للطبيعة تلوح ولا تظهر، تتذوق الحياة كأنها لحن لم يُكتمل. أدب كافكا لا يحددك، بل يفتحك على تأويلات لا تنتهي. اليسار يرى فيه نبيًا سياسيًا، واليمين يراه مفسرًا لاهوتيًا. وفي كليهما، لا يضيع المعنى، بل يتضاعف. إنه ليس كاتبًا تاريخيًا، بل كائن خالد — مثله مثل بورخيس، الذي كان تلميذًا في معبده.

كافكا لم يتنبأ بالمستقبل، بل كشف الحاضر في زمنه. علاقات الفرد بالمؤسسات، عجز الإنسان أمام البيروقراطية، المهزلة التي ترتدي قناع الجدية — كلها نبضات في قلب كافكا. وكأن دونالد ترامب، وبوتين، والاتحاد الأوروبي أنفسهم وُلدوا من حبره. ترك لنا كوابيسنا قبل أن نحلمها. لم يكن يسرد، بل يكشف. ولهذا، قد تكون شهرته الحقيقية بدأت الآن فقط.

كل هذا ما كان ليكون لولا خيانة جميلة ارتكبها ماكس برود. كافكا أراد أن يُحرق كل شيء. لم يكن يرى نفسه كاتبًا، بل هاويًا متواضعًا. كان مستعدًا للغرق في النسيان، لولا أن صديقه أنقذ مخطوطاته من ألسنة النسيان، وهرب بها كما لو كانت الكأس المقدسة للأدب الحديث.

وفي سيرة فيلاس، يقف والده لغزًا. رجل أمي ثقافيًا، أُخرج من المدرسة في عمر الثانية عشرة، لكن كتب كافكا كانت هناك، في بيته، كأنها أتت من عالم آخر. أما إلفيس بريسلي، فقد حضر في القاموس الذي كتبه الكاتب كنوع من الدعابة، لجعل الشباب يتساءلون: من هو هذا "الكافكا" الذي يُقارن بإلفيس؟ كلاهما، بعد كل شيء، كان يرتدي الأسود وكأنهما جاءا من نفس الحلم المظلم.

بالنسبة لفيلاس، الكتابة نفسها كانت طوق نجاة، كما كانت لكافكا. كتب كي يعيش، وعاش كي يكتب. لذلك لم يتزوج، لأن الزواج قد يسرق منه لحظة الشفاء الوحيدة: الكتابة.

كافكا سبق "الخيال الذاتي" بزمن. لكن بدلاً من أن يقول "أنا"، سمّى بطله بـ K. لماذا؟ لا أحد يعلم. لكن الحرف وحده كان كافيًا ليشير إلى اسمه، إلى ذاته التي تتشظى بين الواقع والمتخيل.

حتى في عمق التراجيديا، هناك فكاهة سوداء تلمع. فكاهة تفتح أبواب الشر، لكنها لا تُخيف بقدر ما تكشف. تسخر من إذلال الدولة للفرد، من الاحتقار النظامي الذي يُغلف بالأوراق والطوابع. لكن كافكا، على عكس الآخرين، لم يُطبع على هذا الإذلال. لم يُطبع على القهر، بل كشفه كما هو، دون رتوش، فكانت كتابته صدمة، وصفعة، وإدراكًا حادًا بأن المأساة تبدأ حين نكفّ عن رؤيتها كمأساة.

وحين نسمي شيئًا "كافكويًا"، فإننا نكون قد بلغنا لحظة الوعي: لحظة نعرف فيها أن لا شيء طبيعي، وأن العبث الذي نعيشه لا يُحتمل إلا حين نضع عليه اسمًا. وكافكا، هذا الاسم، لم يكن مجرد كاتب. كان مرآة، ومشرطًا، وصرخة... ما زالت تتردد.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.