: آخر تحديث

أفريقيا الوسطى... من الحرب إلى الحلم

3
3
3

جمهورية أفريقيا الوسطى تعود اليوم إلى واجهة النقاش الدولي منطقةً تبحث عن طريق جديد نحو الاستقرار والتنمية، بعد عقودٍ من الحروب الأهلية والانقسامات العرقية والدينية التي أنهكت المجتمعات، وأتت على ما تبقَّى من مؤسسات الدولة.

في قلب هذه التجربة، يبرز اسمُ الرئيس فوستان أرشانغ تواديرا، الرجل الأكاديمي الذي انتقل من قاعات الجامعة إلى قصر الرئاسة، حاملاً معه رؤية مختلفة لمستقبل بلاده، رؤية تتجاوز الصّراع التقليدي على السلطة، نحو محاولة تأسيس نموذج للحكم يقوم على المعرفة، الحوار، والانفتاح على الشراكات المتوازنة.

لم يكن طريق تواديرا سهلاً، فهو قادم إلى السلطة في بلد مثقل بالمآسي، وممزق بجراح عميقة. جذور الحرب الأهلية تعود إلى تراكماتٍ طويلة من الطموحات السياسية المتصارعة، والتوظيف الشعبوي للانقسامات العرقية والدينية، فضلاً عن ضعف الخبرة السياسية التي جعلت المشهد عرضة للانفجار عند كل منعطف.

جزء غير يسير من المسؤولية تتحمَّله مرحلة الرئيس السابق بوزيزي، الذي حاول توظيف الأوضاع المضطربة في الداخل لبناء زعامة زائفة بين قومه، ما فاقم التوترات وأدخل البلادَ في دائرة من الدماء والدمار. هذه الحقبة تركت ندوباً لا تزال مؤثرة حتى اليوم، لكنَّها في الوقت نفسه أفرزت حاجة مجتمعية ملحّة إلى قيادة أكثر هدوءاً ورصانة.

في هذا السياق ظهر تواديرا، الأستاذ الجامعي الذي لم يتخلَّ عن عادته في الذهاب إلى مدرجات الجامعة كل يوم سبت لتدريس طلابه، رغم أن مكتبه في القصر الرئاسي يزدحم بالملفات الثقيلة. هذه المفارقة تعكس بوضوح طبيعة الرجل الذي يؤمن بالعلم والمعرفة بوصفهما أداتَين مركزيَّتين لإعادة بناء الدولة، ويرى في العلاقة مع طلابه صورةً رمزيةً لعلاقة القائد بشعبه: علاقة قائمة على التفاعل والتبادل، لا على التسلط والإملاء. وربما لهذا السبب يضم فريقه الحكومي اليوم عدداً من أولئك الذين كانوا بالأمس يجلسون أمامه في قاعات الدرس، ليجدوا أنفسهم شركاء في مشروع وطني جديد.

لكن الرؤية وحدها لا تكفي ما لم تقترن بقدرة على إدارة التوازنات الداخلية والخارجية. تواديرا اختار مساراً براغماتياً واضحاً، إذ وضع أمنه الشخصي وأمن البلاد في عهدة روسيا التي توفر حماية دون أن تتدخل - على الأقل حتى الآن - في الشأن السياسي الداخلي، وهو ما يراه كثيرون عاملاً رئيسياً في توفير حد أدنى من الاستقرار الأمني. في المقابل، فتح الرجل قنوات واسعة مع دول الخليج العربي، مستلهماً النماذج التنموية القائمة هناك، ومراهناً على أن تلك الشراكات يمكن أن تسهم في نقل البلاد من مرحلة النجاة إلى مرحلة البناء.

النتائج بدأت تلوح في الأفق، فقد تمكنت البلاد من إنجاز محطة طاقة عملاقة بالتعاون مع شركة إماراتية ضاعفت إنتاج الكهرباء مقارنة بما كان عليه منذ الاستقلال. هذا التطور ليس مجرد إنجاز تقني، بل يمثل تحولاً نوعياً في بلد ظل لعقود يعتمد على طاقة محدودة لا تكفي لتلبية حاجات السكان، ولا لتشجيع الاستثمار. واليوم، حين يتحدث تواديرا عن مستقبل بلاده، يضع المعادن النادرة والثروات الطبيعية في صلب خطته التنموية، مدركاً أن هذه الموارد قد تُشكِّل مصدر قوة إذا أُحسن استغلالها، أو تتحول إلى لعنة إذا وقعت في فخ الصراع والفساد.

هذه الجمهورية الحبيسة في قلب القارة الأفريقية، لا تكاد تخلو أي بقعة فيها من ثروة دفينة، فهي ثاني أكبر منتج للذهب في أفريقيا، باحتياطات تتجاوز ملياراً ونصف المليار دولار سنوياً، وأكثر من نصف صادراتها للعالم الخارجي من الألماس، وتختزن أرضها موارد هائلة من اليورانيوم والحديد والنحاس والرصاص.

كل هذه الثروات كانت لعنة على البلد، وظلت عرضة للسرقة والاستنزاف لعقود طويلة، وتذهب سدى في مسالك التهريب والجريمة المنظمة، بينما يعاني السكانُ الفقرَ، وبالكاد يتجاوز دخل الفرد منهم 500 دولار سنوياً؛ من هُنا يريد الأستاذ الجامعي تغيير الوضع.

ما يميز تجربة تواديرا أنَّه يسعى إلى تسويق مشروعه الداخلي، بوصفه جزءاً من قصة نجاح أكبر تخصُّ القارة الأفريقية برمتها. فهو يدرك أن أفريقيا اليوم باتت محط أنظار القوى الدولية، وأن موقع بلاده الجغرافي وثرواتها الطبيعية يضعانها في قلب لعبة جيوسياسية معقدة. ومن هنا تأتي محاولته للتوازن بين شركاء متعددين: الروس، بوصفهم ضامنين للأمن، والخليجيون بوصفهم شركاء في التنمية، والأوروبيون الذين لا يمكن استبعادهم رغم تراجع نفوذهم في السنوات الأخيرة. هذه المعادلة قد تكون صعبة، لكنها تعكس وعياً براغماتياً نادراً في بيئة سياسية طغت عليها المغامرات قصيرة المدى.

غير أن التحديات لا تزال كبيرة. فالتجربة السلمية الراهنة تحتاج إلى تعميم وترسيخ في كل المناطق التي لم تصلها بعد. والمفاوضات الجارية مع المجموعات المسلحة قد تنجح في إدماجها ضمن العملية السياسية، لكنها قد تفشل إذا ما عاد منطق المحاصصة الضيقة والتجاذبات الإقليمية إلى الواجهة. كما أنَّ الرهان على الثروات الطبيعية وحدها لن يكفي من دون إصلاح عميق للمؤسسات، وبناء منظومة شفافة لمكافحة الفساد وضمان العدالة في توزيع الموارد.

المشهد في أفريقيا الوسطى اليوم يعكس صورة مزدوجة: بلدٌ خرج لتوّه من أتون حرب مُدمِّرة، لكنَّه يقف أيضاً على أعتاب فرصة تاريخية قد تنقله إلى موقع مختلف في الخريطة الأفريقية. وإذا كان الرئيس تواديرا قد نجح حتى الآن في إطفاء الحريق وإعادة الأمل إلى جزء واسع من شعبه، فإن التحدي المقبل يتمثل في قدرته على تحويل هذا الأمل إلى واقع ملموس، عبر بناء دولة حديثة قادرة على إدارة مواردها وحماية وحدتها الداخلية.

إن قصة تواديرا، تحمل دلالات عميقة على إمكانية الجمع بين المعرفة والسياسة، بين الحلم والواقع. وفي قارة اعتادت أن ترى حكامها ينفصلون عن مجتمعاتهم بمجرد وصولهم إلى السلطة، يبدو أن أفريقيا الوسطى تقدم اليوم نموذجاً مغايراً، قد يكون فرصة نادرة لإعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع على أسس جديدة.

على الأقل يمكنُ القول إن تواديرا، نجحَ إلى حد الآن في «إسكات البنادق» في جمهورية أفريقيا الوسطى، بفضل معادلة واقعية وبسيطة، وبدأ يتطلع إلى «تحقيق التنمية» بكثير من التفاؤل، وهو الذي لا يجد أي حرجٍ في الرقص مع سكان قرية نائية، يحتفلُ سكانها بمشروع سيمنحهم الكهرباء، ويغير حياتهم البسيطة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد