يا لها من نبوءة كابوسية تُطل من على منبر ديني، مسلّحة بفقه "دفع المفاسد" ومجردة من أي فضول معرفي. داعية مصري، يبدو أن لديه إشكال شخصي مع الروبوتات، يرى في الذكاء الاصطناعي تجلياً حديثاً لإبليس، وسبباً مباشراً لـ"نزع الإيمان من القلوب". لنبتلع هذا الطرح – لا على سبيل الإقناع، بل من باب التأمل في فوبيا التكنولوجيا حين تتزوج بالفكر المحافظ.
تصريحات الداعية وردت متلفزة أدلى بها عبر قناة "الشمس" المصرية، تنذر بكارثة ميتافيزيقية من طراز رفيع: الذكاء الاصطناعي، حسب قوله، بوابة إلى موجة إلحاد عارمة، ووسيلة لتحويل الإنسان إلى عبدٍ للآلة. من اللافت والمربك في آن تحميل تقنية مثل الذكاء الاصطناعي كل هذا الثقل: "ينحي دور الإله؟"، "يحول الإنسان إلى عبد؟"؛ أينسف المشاعر حقاً؟
الداعية لا يكتفي بالتحذير من الاستخدام السيئ للذكاء الاصطناعي، بل يرى فيه قوةً شيطانية تُنحّي دور الإله، وتنزع الإيمان من القلوب، وتستبدل الدعاة والزوجات والآباء ببرمجيات لا روح فيها.
ثم حان دور الفقرة العاطفية، أو ما يشبهها؛ إذ لم يكتفِ الداعية بالتنبيه إلى مخاطر التقنية على ميدان الفتاوى، بل انتقل إلى الميدان الاجتماعي، لينظر في ظاهرة العلاقات العاطفية بين البشر والروبوتات ويعلنها علامة على "خلل نفسي". لعل الصورة في ذهنه كانت لرجل يهمس لآلة قهوة، أو لامرأة تعاتب مكنسة ذكية.
لكن عوض الاكتفاء بالدهشة (وهي مشروعة)، اختار الداعية أسلوب الصدمة الفقهية، فشبّه هذه العلاقات بما لا يُقال — علاقة بين إنسان وبهيمة؛ انزلاق عنيف وغير منتج، فهو لا يردع، بل يضع الخطاب الديني في موضع بعيد عن الواقع الذي يفترض به أن يفسّره.
ليست هذه أول مرة تُتهم فيها التكنولوجيا بالإساءة إلى الإنسان، هذه المرة أيضاً لا تختلف كثيراً عن تهويلات سابقة عن التلفاز والإنترنت وحتى الراديو؛ أدوات قيل إنها ستقودنا إلى "آخر الزمان"، لكنها لم تفعل، أو على الأقل لم يكن الذكاء الاصطناعي طرفاً مباشراً في الانحراف الجماعي!
والمفارقة هنا أن النموذج الذي يهاجمه الداعية – نموذج لغوي معرفي لا يملك لا إرادة ولا نية – يبدو أحيانًا أكثر رصانة في الحديث عن الدين من كثير من خطب الدعاة المتشنجة.
أحد لم يطلب من الفقهاء أن يسبّحوا بحمد التقنية، بل أن يتخلّوا عن فانتازيا المواجهة النهائية. فالتقنية، شئنا أم أبينا، لن تنتظر موافقة المجمع الفقهي لتُغير طريقة تفكير الناس وسلوكهم. وحده الفقه الذي يفهم السياق، ويدرك حدود الأدوات وطاقاتها، هو القادر على مواكبة التحول دون أن يفقد جوهره.
إن ما تفتقر إليه تصريحات بعض الدعاة هو التبصّر لا التحذير، والمعرفة لا الهلع، والنقد الراشد لا النبوءات الكارثية.