شكّل الهجوم الإيراني على قاعدة "العديد" الأميركية في قطر لحظة مفصلية في تاريخ الأمن الإقليمي، بل لحظة كاشفة عن الوجه الحقيقي للسياسات الإيرانية تجاه دول الخليج العربي. لم يكن الاستهداف مجرد ردٍّ على ضربات أميركية استهدفت منشآت نووية داخل إيران، بل إعلانًا صريحًا عن تغيير قواعد الاشتباك، وانتقال طهران من سياسة الحرب بالوكالة إلى المواجهة المباشرة مع حلفاء الخليج، عبر كسر الهيبة العسكرية الأميركية في صميم حضورها الخليجي.
قاعدة العديد... ما بعد الخط الأحمر
ليست "العديد" مجرد منشأة عسكرية أميركية عابرة ضمن منظومة قواعدها المنتشرة حول العالم؛ بل هي حجر الزاوية في هندسة الهيمنة الأميركية على المنطقة الممتدة من الخليج العربي وحتى القرن الأفريقي، مرورًا بجنوب آسيا. إنها القلب النابض للوجود العسكري الأميركي في الشرق الأوسط، ومنصة القيادة والتحكم للعمليات الجوية في العراق وسوريا وأفغانستان. ومن خلالها، تُراقب التحركات الإيرانية، وتشرف كذلك على أمن الممرات البحرية الدولية من مضيق هرمز وباب المندب وصولًا إلى قناة السويس. وعبرها تدير واشنطن عمليات التنسيق الأمني مع كل دول الخليج. إنها أكثر من قاعدة؛ إنها مظلة ردع استراتيجية، طالما شعرت العواصم الخليجية بالأمان في ظلها.
من هنا، تأتي رمزية الاستهداف الإيراني لهذه القاعدة. فالضربة - مهما كان حجمها الميداني – تحمل رسالة سياسية واضحة تشير إلى أن إيران لم تعد تكتفي بتحريك أذرعها في غزة وبيروت وصنعاء وبغداد، بل أصبحت مستعدة لتوجيه السهام بنفسها، ومن فوق الطاولة، في توقيت بالغ الحساسية، وبعد أيام فقط من عمليات استهدفت عمق برنامجها النووي. وهو ما يعكس طبيعة "الانتقام العقائدي" الذي تحمله القيادة الإيرانية، ويؤكد أن الخليج العربي لم يكن يومًا خارج قائمة الخصوم الاستراتيجيين لطهران.
الحقد الممنهج... لا جديد في نوايا إيران
منذ أكثر من أربعة عقود، تنتهج طهران استراتيجية توسعية تنطلق من عقيدة طائفية معادية للعرب عمومًا، وللدول الخليجية خصوصًا. فإيران لا ترى في الخليج سوى امتدادٍ طبيعيٍّ لنفوذها الإمبراطوري المزعوم، وتتعامل مع شعوبه بوصفهم عقبة أمام مشروعها الفارسي الذي لا يخفي طموحه التوسعي. وقد مارست طهران سياسات ممنهجة تهدف إلى زعزعة الاستقرار الداخلي في أكثر من دولة خليجية، عبر دعم الحركات الانفصالية، وتجنيد خلايا نائمة، وتأجيج الانقسامات الطائفية، ناهيك عن الهجمات السيبرانية والتدخلات الإعلامية الموجهة لإثارة الشكوك بين الحكومات وشعوبها.
والهجوم على "العديد" لم يكن معزولًا عن هذا السياق، بل امتدادًا طبيعيًا لسلوك عدائي مستمر، عبّرت عنه إيران في استهداف منشآت "أرامكو" السعودية عام 2019، وفي الاعتداءات المتكررة على السفن وناقلات النفط، وفي التهديدات العلنية التي أطلقها قادة "الحرس الثوري" مرارًا بحق دولة الإمارات والبحرين والكويت. كل هذه الأفعال تعكس قناعة متجذرة لدى النظام الإيراني بأن أمن واستقرار الخليج يشكلان خطرًا على مشروعه الطائفي، وهدفًا مشروعًا لضرباته.
هل تنهار فرضية الأمن الأميركي؟
لطالما قامت معادلة الاستقرار الخليجي على فرضية أن "أمن الخليج من أمن أميركا"، وأن المظلة الغربية كفيلة بردع أي تهديدات إقليمية. هذه المعادلة منحت دول الخليج هامشًا من الاطمئنان، لكن الهجوم الإيراني الأخير أعاد خلط الأوراق. فإذا كانت القاعدة التي ترمز إلى الحضور العسكري الأميركي الأضخم في المنطقة عرضة لهجمات إيرانية مباشرة، فماذا عن المنشآت الحيوية الخليجية الأخرى؟ وماذا عن عواصم ومدن تكتظ بالاستثمارات والبنى التحتية فائقة الحساسية؟
هنا، يتبدى الخطر الحقيقي: فإما أن ترد واشنطن بحزم، ما يعيد ترسيخ منظومة الردع، أو أن تتراجع تحت ذرائع تجنب التصعيد، وهو ما سيُقرأ في طهران - وللأسف في العواصم الإقليمية الأخرى - على أنه ضعف استراتيجي، قد يشجع على مزيد من التحرش بالمصالح الخليجية. وهذا ما سيُدخل المنطقة في حالة "فراغ ردعي"، قد لا تبقى فيها "أبراج الخليج" شامخة كما هي عليه الآن.
من الدفاع إلى المبادرة... الخليج أمام لحظة حسم
المشهد الحالي لا يحتمل سياسة النعامة ولا الاكتفاء بالتصريحات الدبلوماسية. المطلوب الآن هو رؤية خليجية موحدة، تتجاوز الحسابات الضيقة، وتستند إلى منطق المبادرة لا رد الفعل. سواء عبر تعزيز الجبهة الداخلية ضد الاختراقات السيبرانية والخلايا المرتبطة بإيران، أو من خلال تسريع برامج التسلح النوعي، والتدريب العسكري المشترك، ورفع كفاءة الجيوش الخليجية، بما يجعلها قادرة على حماية سيادتها إذا ما تعرضت لضربة خارجية كالتي حدثت في العديد.
وفي الوقت ذاته، يجب ألا تُهمل الحرب الإعلامية والنفسية التي تخوضها إيران بدهاء، مستخدمة منصات ناطقة بالعربية، تنشر الشائعات وتبث الانقسام، وتقدم سرديات مضللة. هذه الحرب قد لا تُرى بالعين، لكنها تضعف الثقة وتربك المجتمعات. والتصدي لها يتطلب خطابًا إعلاميًا موحدًا، ووعيًا جماهيريًا مقاومًا لثقافة التهويل والتفتيت.
استهداف الجميع... لا خطوط حمراء عند طهران
العدوان الإيراني الأخير يوجه رسالة ضمنية إلى كل دول الخليج: لا خطوط حمراء لدى طهران، والجميع أهداف محتملة. فحتى دولة مثل قطر، التي حاولت - رغم استضافتها لقاعدة العديد - الحفاظ على مسافة دبلوماسية معينة مع طهران، لم تسلم من النيران الإيرانية. وهذا ما يؤكد أن عقلية "الحياد الآمن" لا تنفع مع نظام يؤمن بالعقيدة قبل المصلحة، ويضحي بالعلاقات قبل أن يفرّط بوهم التفوق والهيبة.
لا بديل عن التماسك
أمن الخليج ليس شأنًا داخليًا. إنه شأن عالمي، لما للمنطقة من دور محوري في أمن الطاقة والملاحة والتجارة العالمية. لكن العالم، مهما كان حريصًا، لا يستطيع أن يدافع عن منطقة لا تدافع عن نفسها أولًا. ولذلك، فإن اللحظة الحالية تستدعي قرارات تاريخية من قادة الخليج، تبدأ بإعادة تعريف مفهوم الأمن القومي، وتصل إلى رسم ملامح استقلالية استراتيجية فعلية.
ضربة "العديد" هي جرس إنذار، لكنها أيضًا فرصة. فرصة لإعادة التموضع، وبناء نموذج جديد من الردع الذكي، والتكامل الخليجي، والتحالفات متعددة الأبعاد. فإما أن ننهض من تحت الركام ونحصّن أبراجنا، أو ننتظر سقوطها، واحدة تلو الأخرى، أمام مشروع لا يعترف بجيرة، ولا يوقّر عروبة، ولا يتوانى عن سفك الدماء في سبيل وهم التوسع.