: آخر تحديث

سوريا تكتب خبزها

2
2
2

 

لا يختصر تراجع إنتاج القمح في سوريا أزمةً اقتصاديةً فحسب، بل يكشف صدعاً في الذاكرة الجمعية تشي به رائحة الخبز حين ترتبط صلاح الحاكم وكرامة الناس برغيفٍ يحضنه الفرن. اليوم، ينهض النقاش عن "سلالتين مبشّرتين من القمح القاسي" كخبرٍ علمي يلمع وسط ركام صور الحرب، فيغدو ومضة أمل تتسلل إلى عصبٍ اجتماعي يتأرجح بين الخوف من الجوع وشغف البقاء.

هندسة العلم اصطدمت بهندسة الخراب: قذائفٌ مزّقت مراكز إكثار البذار في حلب ودير الزور فاختلطت سلالات محلية حافظ عليها الفلاحون سرّاً ببذورٍ مهرَّبة حملت نيماتودا مدمرة. النتيجة حقولٌ كالمرايا المهشّمة: سنابل متفاوتة الطول واللون، وإنتاجٌ يقاس اليوم "بعدد الأكياس التي هزلت" كما يصفها أبو حسين الفلاح الحموي بصوتٍ مخنوق: "الدعم شحيح، السعر مُخجل، وحصادنا آخر من يحصد الأرباح".

حيث كانت المدن تستيقظ على هدير الشاحنات المكدّسة بالقمح، باتت تصحو على معاول تنقّب الركام. في كلية الزراعة ـ حلب، يُصمِّم باحثون مختبرات جينيّة بميزانيات تقلّ عن تكلفة واجهة فندق فاخر، فيما تنبت نبتة قمح وحيدة في كأس زجاجي كاستعارةٍ لعلمٍ يصرّ على الحياة. الجامعات، بالرغم من نزيف الكفاءات، تلمع كمصابيح صغيرة في ليلٍ طويل، مدركةً أن القمح ليس سلعةً بورصوية، بل عمودٌ فقري لكرامةٍ جماعية.

من أعمدة الجامع الأموي إلى نواعير حماة وقباب قلعة الحصن، يمتد خيطٌ من الطحين يربط الحجر بالزراعة؛ فالتراث المعماري تشرّب عبر العصور ذرّات القمح المنثور في مواسم الحصاد، حتى صار البناء نفسه شهادةً على تحالف الروح والحبة الذهبية. داخل البيوت الدمشقية القديمة، تغيّرت أدوار النساء: من تخزين الحبوب في جرار الفخار إلى تشغيل ورشٍ أهلية لخبز التنور وإطعام النازحين، مُؤسِّساتٍ بذلك نواة "اقتصاد الصمود" القائم على شبكاتٍ محليةٍ بديلة لسلاسل التوريد العالمية.

حين تقلِّص العقوبات استيراد الأسمدة، يعيد المزارع تدوير فضلات الحيوانات؛ وحين تشح المحروقات، يضخ مياه الآبار بوسائل بدائية تستعيد تقنياتٍ نبطية. لكنها حلول لا تردم هوة حقولٍ عطشى ومطاحن صُمّمت لخمسة ملايين طن سنوياً. أي نهضةٍ تتطلّب خيالاً وطنيّاً يرى في القمح معمارَ انتماء، لا سلعةً لتعديل أرقام الميزان التجاري.

إحياء أصناف القمح الجديدة يفتح باباً لسياحة زراعية تعيد الزائر إلى حقولٍ تجريبية قرب المدرّج الروماني في بُصرة أو أسواق حمص حيث تُعرض أكياسٌ قطنية تحكي سيرة كلّ صنف. الدمج بين الجمالية السياحية وقيمة الغذاء يدوّر رأس المال الثقافي في عجلة الإنتاج، فيتحول الخبز الذي يلتهمه السائح إلى شهادةٍ على انتصار العلم والذاكرة معاً.

في مراكز العلاج النفسي الجماعي بضواحي دمشق، تُعجَن عجينة الخبز لإعادة الشعور بالسيطرة إلى ضحايا الصدمة؛ فالرائحة المنبعثة من فرن الحطب تُعيد وصل الجسد بالواقع. بالتوازي، يغوص الباحثون في هيئة البحوث الزراعية في الشفرة الوراثية لسلالاتٍ تقاوم الجفاف والنيماتودا، مدركين أنّ البيانات لا تكفي بلا برامج إرشادٍ تصل إلى أبعد قريةٍ بلغتها رائحة الكرم قبل لغة التقارير.

يبقى السؤال: ما جدوى قمحٍ مطوّر إذا بقي سعر الشراء الرسمي أدنى من ربع الكلفة؟ هيكلة مؤسسة إكثار البذار لن تُجدي بلا سياسةٍ تؤمّن للفلاح ربحاً يحفظ أرضه من صناديق استثمارٍ طارئة ترى في القمح وسيلة تبييضٍ لا تسميداً للتربة.

القمح، أكثر من أي محصول، استعارةٌ لسوريا: حبةٌ قديمة تُبعث كل عام، تتأرجح بين جفافٍ وفيضان، لكنها تمسك بالتراب بالرغم من سكاكين الحرب. ومع بزوغ السلالات الجديدة ـ بحبوبٍ كهرمانية تلمع ـ تلوح إمكانيةُ إحياء طقس "أول الرغيف"، حيث يوزع كبير العائلة الخبز الساخن على الأصابع الصغيرة تميمةً لمستقبلٍ يشبه سنبلةً لا تنثني مهما عصفت بها الرياح.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.