في عالم الحروب والصراعات، حيث يهيمن الدم والنار على المشهد، هناك فائز خفي أحيانًا لا يظهر على ساحات القتال، لكنه يقرّر النهاية بيده الحديدية: الميزانية. حرب إيران وإسرائيل الأخيرة كانت أشبه بمسرحية قصيرة كتب نهايتها حسابات مصرفية لا هوادة فيها، وفواتير يومية تجاوزت المليار دولار جعلت حتى أعظم الجنرالات يرفعون الأعلام البيضاء. بينما كانت الصواريخ تلوح في الأفق وحاملات الطائرات ترسم ممراتها عبر البحار، كان الاقتصاد، بصموده الصامت، هو من أطفأ جذوة الحرب قبل أن تشتعل أكثر. هذه قصة كيف قضت أرقام الميزانية على لهيب الحرب، وكيف تحولت المعارك المدوية إلى هدنة هادئة برعاية المحاسبين، ليبقى السؤال: هل ينتصر دائمًا من يملك البندقية، أم من يملك الورقة والقلم؟
ربما تكون هذه الحرب واحدة من أغرب الحروب التي مرّت علينا في هذا القرن: حرب بدأت فجأة، وانتهت فجأة، وكأنها مشهد مرتجل في مسرحية بلا مخرج. الجميع كان يتوقع أنها ستطول، وستتحول إلى ملحمة دموية تستمر لأسابيع وربما شهور، خصوصًا بعد أن أطلقت إيران صواريخها نحو قاعدة "العديد" الأميركية في الدوحة، وردّت واشنطن باستعراض عضلات لم يُصب منشأة نووية واحدة بأذى!
وسط كل هذا الجنون، كانت حاملات الطائرات الأميركية تبحر بثقة نحو البحر الأحمر، وتتزاحم معها المدمرات البريطانية وكأننا أمام إعادة إنتاج لحرب الخليج. المحللون استنفروا، الأسواق ارتجفت، والجمهور أمسك بمقعده ينتظر الضربة التالية... ثم فجأة: انتهت الحرب! لا بيان نصر، ولا لقطات منتصرة، فقط هدنة جاءت أسرع من إعلان الفيفا عن حكم المباراة.
ومن المفارقات أنَّ هذه الحرب التي أشعلت الأجواء، لم تدم سوى 12 يومًا فقط. 12 يومًا شغلت فيها القنوات الفضائية جميع شاشاتها بالبث المباشر، وكأننا في نهائي كأس العالم، مع عشرات المراسلين الذين هرولوا من طهران إلى تل أبيب، ومن الدوحة إلى واشنطن، ينقلون كل همسة، وكل تفصيل صغير كأنه نهاية العالم. والتكلفة؟ لا تذكر، بين تكاليف النقل، ورواتب المحللين، وزيارات الاستوديوهات، والخبراء الذين ظهروا فجأة وكأنهم كانوا في الحجر الصحي على استعداد للحرب منذ سنوات.
فهل تمت صفقة سرية بين العواصم؟ أم أن أطراف النزاع اكتشفوا أن الميزانية لا تتحمّل مزيدًا من المتعة النارية؟ ربما أميركا تذكرت أن الذخيرة غالية، وحاملة الطائرات تستهلك أكثر مما تنتج، وأن الشعب يفضّل العروض المجانية على نتفليكس لا على نشرات الأخبار. كل شيء كان يقول إننا أمام حرب طويلة... لكن يبدو أن الوضع الاقتصادي أقوى من كل الصواريخ.
وحين كشفت التقارير أن تكلفة اليوم الواحد من الحرب بلغت ما بين 1.2 إلى 1.5 مليار دولار يوميًا، منها نصف مليار تتحمّلها واشنطن وحدها، بدا أن الأرقام بدأت تفرض رأيها على الجنرالات. حتى الآلة الحاسبة أعلنت العصيان.
وفي تلك اللحظة، لم يجد مجلس الأمن ما يقوله سوى عبارات من نوع "نحث الأطراف على ضبط النفس" و"نطالب باحترام القانون الدولي"، وكأنهم يرددون نسخة قديمة من بيانٍ أُعدّ في تسعينات القرن الماضي. وكأنهم يؤكدون مقولة جورج أورويل الشهيرة في روايته 1984: "الحرب هي السلام. الحرية هي العبودية. الجهل هو القوة"، حيث يصبح العبث منطقيًا والدبلوماسية مجرد ديكور لإخراج سيّئ.
الدبلوماسيون الذين ظهروا أخيرًا بعد أن خفت صوت الصواريخ – تبادلوا الابتسامات وكما قال الممثل بيتر أوتول ذات مرة "السياسة هي فن الممكن... أما الحرب فهي فن اللامعقول"، فإن ما رأيناه لم يكن إلا تطبيقًا عمليًا لهذا الجنون المنطقي الذي يُدار خلف المكاتب وبعيدًا عن صوت المدافع. وتحدثوا عن "اختراق دبلوماسي كبير"، وكأنهم هم من أوقفوا الحرب، لا الخزانة الأميركية.
الحرب توقفت، نعم، لكن الأسئلة بدأت. لماذا الآن؟ من تراجع؟ من دفع؟ من باع؟ ومن قبض؟ لا أحد يملك إجابة دقيقة، لكن هناك انطباعًا عامًا أن المسرح طُوي دون أن نعرف إن كان هذا المشهد الأخير، أم مجرد استراحة فنية في مسرحية عبثية لا تنتهي.
وربما كما قال تشارلي شابلن ذات مرة "الحياة قد تكون مأساة لمن يشعر، لكنها مهزلة لمن يفكر"، فإن ما شهدناه لم يكن سوى عرضًا مرتجلًا في مسرح، كتبته الأرقام وأخرجته المصالح.
ربما نحتاج إلى سنوات كي نفهم ما جرى، أو إلى تسريبٍ صغير في بريدٍ إلكتروني رسمي يكشف لنا أن كل ما عشناه كان مجرد جزء من مفاوضات خلف الستار، وأن الصواريخ لم تكن سوى رسائل دبلوماسية بلغة بارود.
وإلى أن يأتي هذا اليوم، لن نملك إلا أن نتأمل نهاية هذه الحرب السريعة، ونتساءل: هل كانت النهاية غريبة فعلاً؟ أم أن كل شيء كان محسوبًا بدقة... حتى المفاجأة؟