: آخر تحديث

عودة فلول الإرهاب 
إلى البلد الخراب

3
3
3

 

مدخل أول:
لا يطرح تفجير كنيسة مار إلياس في حيّ الدويلعة الدمشقي مجرد علامة استفهام، بل يوقظ كل ما ظُنّ أنه انتهى من أسئلة اللامسؤولية والارتباك الأمني. لأن الحادثة، بما تنطوي عليه من وضوح في الهدف وغموض في الأداء الرسمي، لم تُقابل بما يليق من يقظة أو حزم أو حتى عناية رمزية بأرواح الضحايا. وأن ما يزيد المشهد التباسًا أننا لم نقرأ نعيًا يليق، ولا بيانًا يُشعر الأهالي أن ذويهم سقطوا في عهدة دولة، لا في فجوة، مما يوسّع دائرة السؤال ويدفعنا للقول: ترى أين كان الحرس المفترض؟ وأين اختفت الكاميرات؟ ولماذا لم يخرج من يتحرّى ويتأكّد قبل أن يجيب من بنات خياله واتهاماته، وقبل أن تخرج التحليلات والتصنيفات؟

إذ حين تُستهدف كنيسة في قلب دمشق، فإنه يُفترض أن يتصدّر المشهدَ سؤالُ المسؤولية لا التصورات والأخيلة والرغبات، والمحاسبة لا المواربة، لأنّ أيّ طفل تُصاب أصبعه هو – أولًا وأخيرًا – تحت كفالة الدولة، لا تحت تقديرات الظن أو رمي الاتهامات جزافاً، وفك الحبل عن رقبة المجرم والمخطط ومن وراءهما!

عود للوراء:
لطالما أنَّ الجريمة لا تأتي فرادى، بل تنبثق من رحم الخراب الوطني المركّب، فلا يبدو مستغربًا البتة أن تعود طلائع فلول الإرهاب – مرة أخرى – لتتجوّل وتنعق في خرائب سوريا، بعدما توهّم كثيرون أنَّ صفحة الدم قد طُويت. لكن ما لم يُهدم من منظومة القتل، عاد اليوم في شكل آخر، تحت رايات مستعارة وشعارات خادعة ملفقة. من هنا نرى أنَّ الذين هتفوا يومًا لحرية تُعيد كرامتهم وتعيد إليهم وطنهم، يقفون مجددًا على شفير الخديعة، فها هم يسمعون صدى التفجيرات، وهم يجدون، إلى جانب من هم من أبناء بلدهم يمكن إيلاؤهم الثقة، مقابل الأمان والاستقرار، فيما لو كانت الجهود المبذولة صادقة وحقيقية، من حولهم أشباح مرتزقة يُعاد تدويرهم ضمن لعبة دولية لا تعترف بالدم السوري إلا بصفته مادة خام لمشاريعها.

تأسيسًا على ذلك، فإنَّ الثورة لم تجذب حولها السوريين من مختلف المكونات على أنها طائفية، ولم يكن السوريون حين انتفضوا منشغلين بانتماء الطاغية المجرم، بل بفعله ودائرته المستبدة من الطوائف كلها، ولم يوجّهوا أصابعهم إلى أي مكوّن ديني، بل إلى واجهة تُدار بها آلة البطش. أجل، لم تخرج الملايين كي تسقط طائفة، بل كي تسقط نظامًا صلب ونواة سلوكه وسياسة سلطته استباحة القانون، واحتكار القوة، وتفصيل الوطن على مقاس مصالح وأحلام وطموحات شراذم متلونة وملونة متسلّطة تُمعن في إذلال السوريين على اختلاف مشاربهم.

أمَّا النظام البائد، فقد كان بارعًا في إدارة معادلة الانقسام الطائفي، ليس لحماية طائفة بعينها، بل لحماية طائفته الخاصة – طائفة النظام – التي كانت خلاصة وحثالة طوائف متعددة. قوامها من المنتفعين والمتورطين في شبكات الفساد والتسلط. هذه الطائفة الجديدة غير المعنونة دينيًا، كانت قائمة على الولاء لا على الإيمان، وعلى المصالح لا على العقيدة.

إنما اللافت أن بعض الوجوه التي تشوّهت في خدمة النظام استقواء أو إعانة واستعانة وصفاقة أو تصفيقًا – من خارج هذه الدوائر أو من داخلها – عادت اليوم لتُمنح أقنعة جديدة، تحاول من خلالها التبرؤ من دمها القديم، وتقديم نفسها كمعارضة نظيفة، في وقت لا تزال تمارس الدور ذاته: تضليل السوريين، وتجميل الانتهاكات، والتستر على التواطؤ. هؤلاء يعتلون المنصات الإعلامية، يهاجمون كل ناقد، ويخوّنون كل من يرفض التسويات الكاذبة، بينما يكرّسون من جديد الخطاب الذي شوّه الثورة.

من هنا، فإنَّ على السلطة المؤقتة في سوريا أن تتحمّل مسؤوليتها، لا بوصفها خصمًا، بل بوصفها طرفًا بات في موقع القرار. لا يكفي أن تتموضع بوصفها ضحية المرحلة، بل يجب أن تكون في موقع الفاعل المسؤول، وخصوصًا في ملف وجود المقاتلين الأجانب، الذي بات عبئًا أخلاقيًا وسياسيًا لا يمكن تسويغه تحت أي ذريعة من ذرائع الوفاء أو رد الجميل، كمعادل لاستعانة النظام بالمرتزقة الإيرانيين أو من حزب الله أو غيرهم من الحشد الشعبي أو من عناوين ودول أخرى.

إنَّ تبنّي هؤلاء الأجانب والدفاع عنهم بوصفهم جزءًا من مشروع التحرير، هو خطأ سياسي وأمني فادح. لأنهم لم يُحرروا المدن، ولم يبنوا مؤسسات، بل تورّطوا في ارتكاب انتهاكات، كما الفصائل المرتزقة التابعة الحاضنة، وشكّلوا أداة إضافية لتشويه الثورة، وتقديم الذرائع للسلطة السابقة كي تواصل جرائمها، قبل سقوطها المدوي. إنَّ استمرار وجودهم في سوريا، وتجنيسهم، ومنحهم المراتب والرواتب، يمثّل خطرًا متصاعدًا لا على المستوى الأمني فقط، بل على مستوى الأجيال المقبلة. هؤلاء المعتمد عليهم– كثوار وهم مرتزقة مأجورين أو مُضلَّل بهم– من جنسيات أجنبية ينبغي إعادتهم إلى بلدانهم الأصلية، شأن مقاتلي داعش وممن سُمّين بالمجاهدات المقترنات بهم وأسرهم على حد سواء، لا تسليمهم إلى دمشق التي لا تملك لا الإرادة ولا القدرة على معالجة هذه المعضلة، بل غالبًا ستستخدمهم كأوراق ضغط أو أدوات تصفية، وقد تتبناهم كمن تبنتهم من المرتزقة المستجلبين إلى صفوف الفصائل المشابهة لداعش والتي انصرفت لتكون أدوات بأيدي تركيا وقطر وسواهما للحرب على السوريين، وثورتهم التي ولدت نتيجة ظروف القهر على نحو عفوي، معافاة، إلا أنه تم تحريف بوصلتها من قبل جهات عديدة، عبر المال السياسي.

كما أنَّ أطفال هؤلاء الجناة يجب ألا يُتركوا فريسةً لثقافة الانتقام أو التطرّف، بل ينبغي أن يُخضعوا لبرامج رعاية وتأهيل تحت إشراف دولي محايد، يُعيد إليهم إمكان الاندماج في مجتمعاتهم، ويمنع تكرار الكارثة. أما الذين يهاجمون كل صوت ناقد، ويجتهدون في تسويغ الأخطاء الكارثية، فهم الوجه الآخر للاستبداد، وإن بدت شعاراتهم مختلفة. هؤلاء الذين يدافعون عن وجود الأجانب، ويسوغونه، ويسفّهون من يدعو إلى مراجعة جذرية، إنما يعملون على تقويض ما تبقى من أمل.

عود على بدء:
إنَّ جريمة كنيسة مار إلياس، وما أحاط بها من ارتباك أمني، تفرض مساءلة فورية لا تحتمل التأجيل. لا يمكن للسلطة المؤقتة أن تكتفي بالصمت أو الخطاب الفضفاض، بل عليها أن توضّح للرأي العام: من المسؤول؟ وما الذي يجب تغييره في السياسة الأمنية؟ وكيف سيتم التعامل مع الجماعات المتطرفة التي ما زالت قادرة على تنفيذ هجمات بهذا المستوى؟

إنَّ ما نعيشه ليس خطر الإرهاب بحدّ ذاته، بل خطر الفشل في بناء بديل يليق بتضحيات السوريين. لا نحتاج إلى منقذ جديد، بل إلى دولة حقيقية، بمؤسسات شفافة، وعدالة واضحة، ومسؤولية صريحة لا تتوارى خلف الشعارات.

أما من ظنّوا أن من نجا من الاستبداد سيقبل باستبداد ملوّن، فليعلموا أنَّ الذاكرة لا تُمحى، وأن الدم لا يُنسى، وأن الجريمة، حين تعود، لا تعود من خارج الخراب، بل من صلبه، إن لم يتم اجتثاث جذوره كاملة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.