في زمن باتت فيه الحروب تُخاض بأسلحة الذكاء أكثر من أسلحة النار، وفي عصر تحكمه قوانين المعلومات والتكنولوجيا، يجد النظام الإيراني نفسه أمام محنة شديدة وعصية على الحل ولم يشهد مثلها منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية. فما جرى من انتكاسة فاضحة في حربا مع خصما فعلي هي دولة إسرائيل، ان الضربات عسكرية عابرة لم تكن هي المؤلمة فقط ويه الطامة الكبرى، ولكن تداعياتها التي عرته عسكريا واستخباريا واجتماعيا وكشف عن اختراق استخباراتي يمتد إلى أعماق النظام ويهز أركانه من الأساس، حتى بات كل رجل في دوائر الحكم ينظر إلى من حوله بعين الريبة والشك.
لقد ظن النظام الإيراني طوال عقود أنه محصن في عُقر داره، وأن أجهزته الأمنية قادرة على حماية أسراره من عيون الأعداء. غير أن الأحداث الأخيرة كشفت عن واقع من الكوميديا السوداء، فشبكات التجسس الإسرائيلية لم تكن وليدة اللحظة، بل ثمرة استثمار طويل الأمد بدأ مع قيام الثورة الإيرانية عام 1979. وعبر أربعة عقود ونيف، نسج الموساد -جهاز المخابرات الإسرائيلي - خيوط شبكته بكثير من المهارة والحرفية العالية وبصبر ودأب طويلين، مستغلاً كل شق في الجدار الإيراني، وكل ضعف في نسيج المجتمع، حتى وصل إلى ما وصل إليه اليوم من نفوذ وتأثير.
والطريف في الأمر أن هذا الاختراق لم يقتصر على الطبقات الدنيا من المجتمع أو الهوامش المنسية، بل وصل إلى قلب المؤسسة العسكرية والأمنية. فعندما يُقتل رئيس استخبارات الحرس الثوري وجنرالان آخران في ضربات إسرائيلية محكمة التوقيت، فإن ذلك يعني أن المعلومات الاستخباراتية الأكثر حساسية باتت مكشوفة للعدو. وعندما تتمكن الطائرات الإسرائيلية الحديثة والمتقدمة تقنيا من الوصول إلى أهدافها بدقة متناهية، مدعومة بذكاء اصطناعي وتوجيهات من الداخل، فإن ذلك يشير إلى مستوى من التعاون الداخلي يفوق ما كان متصوراً.
وكدليل متداول فقد إشارات التقارير إلى أن اجهزة المخابرات الإسرائيلية نجحت في تهريب أسلحة ومعدات إلى الأراضي الإيرانية قبل الضربات الأخيرة، وأن هذه الأسلحة استُخدمت لاستهداف الدفاعات الإيرانية من الداخل. هذا الأمر يكشف عن مستوى من التنسيق والتخطيط يتجاوز العمليات الاستخباراتية التقليدية، ويدخل في نطاق الحرب الهجينة التي تجمع بين العمل الاستخباراتي والعمليات العسكرية والحرب النفسية.
في مواجهة هذا الواقع الفاضح لنظام الملالي، لجأ النظام الإيراني إلى ما يعرفه أحسن المعرفة، ألا وهو سلاح الإعدام والقمع. فخلال عام 2025 وحده، نفذت السلطات الإيرانية إعدام أربعة أشخاص متهمين بالتجسس لصالح دولة إسرائيل، واعتقلت مئات آخرين في حملة واسعة شملت 700 شخص متهمين بالارتباط بـ "العدو الصهيوني". هذه الأرقام، وإن بدت مرعبة، تعكس حجم الذعر الذي يسيطر على النظام، والإحساس بأن الخطر يتربص به من كل جانب.
غير أن الأمر لا يتوقف عند حدود الأرقام، فالتركيبة الاجتماعية للمتهمين بالتجسس تكشف عن بُعد آخر لمأساة النظام الإيراني . إذ تبين أن العديد من هؤلاء ينتمون إلى مجموعات أقليات عرقية، وبخاصة الأكراد والأذربيجانيين في المناطق الحدودية. هذا الواقع يشير إلى استغلال إسرائيلي يدل على عمق المعرفة والفهم للتوترات الاجتماعية والاقتصادية في هذه المناطق، حيث تجد الأقليات نفسها محرومة من الفرص ومهمشة في مجتمع يدعي الوحدة والتماسك.
هنا يكمن خطر أعظم من التهديد الخارجي، فالنظام "الثيوقراطي" الذي يفقد ثقة شرائح واسعة من مواطنيه يصبح عرضة للانهيار من الداخل. وعندما تتحول الأقليات العرقية إلى أدوات في يد الآخرين، فإن ذلك يعني أن المشكلة أعمق من مجرد اختراق استخباراتي، وأنها تمس جوهر التماسك الاجتماعي للدولة.
والحال أن النظام الإيراني يجد نفسه اليوم في دوامة لا نهاية لها من الشك والريبة. فكل موظف في الحكومة بات محل اتهام، وكل عسكري في الجيش أصبح موضع شبهة، وكل مواطن عادي قد يكون عيناً "للعدو". هذا الوضع النفسي المدمر يخلق مناخاً من عدم الثقة يشل قدرة النظام على اتخاذ القرارات الحاسمة، ويعيق عمل المؤسسات الحيوية.
ولعل الأخطر من ذلك كله أن هذا الاختراق الاستخباراتي يأتي في وقت حساس من تاريخ المنطقة، حيث تتصاعد التوترات وتتعقد المعادلات السياسية. فالنظام الإيراني الذي كان يراهن على برنامجه النووي كورقة قوة في المفاوضات، بات اليوم خالي الوفاض يندب حظه العاثر بعد ان دكت الولايات المتحدة الأمريكية منشآته النووية وجعلتها أثرا بعد عين.
في هذا السياق، تبدو موجة الإعدامات والاعتقالات كمحاولة يائسة لسد الثغرات وإرسال رسالة ردع لكل من تسول له نفسه التعاون مع العدو. لكن السوابق التاريخية تعلمنا أن العنف ليس حلاً للمشاكل الجذرية، وأن النظام الذي يلجأ إلى القمع كآلية وحيدة للحكم، إنما يحفر قبره بيديه.
إن ما يحدث في إيران اليوم يذكرنا بسقوط الأنظمة الديكتاتورية الشمولية والتي سقطت منذ فترة قريبة، حيث تبدأ النهاية عادة من الداخل. فعندما يفقد النظام ثقة مواطنيه، وعندما تصبح أجهزته الأمنية مشغولة بمحاربة شعبها أكثر من محاربة أعدائها، فإن ذلك ينذر بتصدعات قد تؤدي إلى انهيار شامل.
والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح، هو كيف يمكن لنظام الملالي أن يحافظ على أمنه القومي عندما يفقد الأمن الداخلي؟ وكيف يمكن له أن يواجه أعداءه الخارجيين عندما يكون منشغلاً بمحاربة أشباح داخلية يراه في كل مكان وقد تكون من صنع خياله؟
إن النظام الإيراني يقف اليوم على مفترق طرق، فإما أن يعيد النظر في سياساته الداخلية ويبني جسور الثقة مع مواطنيه، وهو أمر لا أعتقد أنه محل اهتمامهم حاليا، وإما أن يستمر في طريق القمع والإرهاب الداخلي الذي لن يؤدي إلا إلى مزيد من التدهور والانهيار. والتاريخ، كما هو معلوم، لا يرحم الأنظمة التي تختار الطريق الخطأ، مهما بدت قوية في لحظة من اللحظات.
في خضم هذه العاصفة، يبدو مستقبل النظام الإيراني محاطاً بضباب كثيف من عدم اليقين، فالضربات الإسرائيلية المدمرة والمبهرة لكل من رأها ترقص في سماء إيران وتدك ارضها، كشفت عن هشاشة الدفاعات الإيرانية وقدراته العسكرية وفضحت تبجحه بالشعارات البالية. والأهم من ذلك، أنها أظهرت للعالم أن النظام الإيراني ليس ذلك البعبع الخطير الذي كان يروج لنفسه، وإنه قد خُيل لأتباعه أنه أسد ولكنه في الحروب مع دولة إسرائيل بانت عوراته وتضعضعه أمام قوتها وبأسها الشديد .
هكذا إذن، يجد النظام الإيراني نفسه في مواجهة أزمة لا تشبه أي أزمة مر بها من قبل. فهو لا يحارب عدواً خارجياً محترفا فحسب، بل يحارب أيضاً تشككاً داخلياً يأكل في جسده كالسرطان، وفي عالم تحكمه قوانين الذكاء والمعلومات، قد يكتشف هذا النظام أن أسلحته التقليدية في القمع والإرهاب لم تعد كافية لضمان بقائه واستمراره.