: آخر تحديث

القوى الناعمة والوعي الوطني

2
2
2

في عالمٍ يزداد ترابطًا وتعقيدًا، لم تعد الدبلوماسية حكرًا على صالات الاجتماعات الرسمية ولا حبيسة البروتوكولات الكبيرة، بل باتت انعكاسًا صريحًا لثقافة الأمم ووعي شعوبها، وهنا يظهر مفهوم "الثقافة الدبلوماسية"، كأحد أعمدة القوة الناعمة، وأداة فاعلة لبناء الجسور، لا الجدران.

الدبلوماسية لم تعد فقط تعني التعامل الرسمي بين الدول، بل تشمل أيضًا ما يُعرف بـ"الدبلوماسية العامة" و"الدبلوماسية الثقافية"، حيث تُصبح القيم، والفن، والأدب، والتعليم، والسياحة، وحتى الرياضة وسائل للتقارب بين الشعوب. وهنا يتجلى الدور العميق للثقافة بوصفها لسانًا حضاريًا يُعبر عن روح الأمة.

وهذا ما تدركه الدول الحديثة جيدًا، فتعكف على تصدير ثقافتها وهويتها بطريقة راقية، مدركة أن الثقافة هي السفير الذي لا ينام، والرسالة التي لا تحتاج إلى ترجمة سياسية.

وفي السنوات الأخيرة، شهدت المملكة العربية السعودية تحولًا استراتيجيًا لافتًا في تعزيز حضورها الدولي عبر أدوات الثقافة والدبلوماسية المتزنة. من خلال رؤية السعودية 2030، باتت المملكة تراهن على الإنسان بوصفه محورًا للتغيير، والثقافة بوصفها منجمًا للهوية وجسرًا نحو العالم.

لقد أدركت القيادة السعودية أن الخطاب الدبلوماسي الحقيقي لا يُصاغ فقط بالحروف، بل يُبنى بالقدوة والاحترام والتفاعل الحضاري. وقد قال صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان في إحدى مقابلاته:

"نحن لا نريد فقط أن نحافظ على ثقافتنا، بل أن نشاركها مع العالم".

وقد انعكس ذلك على المشهد الدولي، إذ باتت الفعاليات الثقافية السعودية، مثل موسم الرياض، والمنتديات الأدبية، ومعارض الفنون، وحتى المبادرات البيئية، أدوات تواصل حضاري ودبلوماسي تُظهر الوجه الأصيل والمتجدد للمملكة.

الثقافة الدبلوماسية تتطلب وعيًا جمعيًا لا يقل أهمية عن الرؤية السياسية. فكل مواطن هو سفير، وكل كلمة تُقال أو تُنشر قد تكون رسالة، سلبًا أو إيجابًا. من هنا، تبرز أهمية التربية على القيم الوطنية والاحترام المتبادل، وحسن التعبير عن الذات والهوية.

إحصائيات صادرة عن معهد GfK تشير إلى أن 68 بالمئة من شعوب العالم تنظر بإيجابية إلى الدول التي تصدر ثقافتها عبر الإعلام والفنون. وهذا يضع على عاتق الجميع والمؤسسات مسؤولية صياغة خطاب ثقافي يرتقي، لا يتنازل، يقنع، لا يهاجم، يُعرّف، لا يُملي.

الختام: إنَّ الثقافة الدبلوماسية ليست ترفًا فكريًا، بل ضرورة استراتيجية في عالم تتغير فيه مفاهيم التأثير والنفوذ. وهي مسؤولية مشتركة بين القيادة والمجتمع، بين المؤسسات والمواطنين، لأن الكلمة الطيبة قد تفتح أبوابًا أغلقتها السياسة، والفن الرفيع قد يُصلح ما أفسدته الصراعات.

فلنحمل ثقافتنا بوعي، ونقدمها للعالم كما هي: جذور راسخة وأغصان طموحة، فنكون بحق سفراء لحضارةٍ لها قلب، وصوت، ورسالة.

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.